طالما كافح الانسان من أجل تجاوز حالة العجز التي يعانيها في ظلّ الأنظمة القسرية، وما نجده في الوقت الحاضر من خلال دراسة المجتمع العربي وثقافته السائدة أن هناك بشكل خاص نوعين من الاغتراب في القرن العشرين من حيث العلاقات القائمة بالمؤسسات الدينية:
هناك أولاً: ميل إلى الاغتراب من الدين، بمعنى رفض المؤسسة الدينية القسرية، والخروج منها، وبخاصة في محاولتها مقاومة التغيير. وينعكس مثل هذا التوجه لدى بعض المثقفين في العصر الحديث، كما يتجلى في مؤلفات شبلي الشميّل وعبد الرحمن الكواكبي وجبران خليل جبران وأمين الريحاني وغيرهم.
وهناك، ثانياً: اغتراب في الدين، بمعنى أن المؤمن المتشدد في إيمانه ينسْب قواه الذاتية إلى قوى خارج نفسه ويسلّمها مصيره باستقلال عنه، وينعكس ذلك في توجهات بعض الحركات السلفية منذ بدايتها بخاصة، كما يبرز في مؤلفات ابن تيمية الذي قال بحق الحاكم أن يفرض الطاعة على رعاياه، وواجب الرعايا أن يمتثلوا لإرادة الحاكم حتى ولو كان ظالماً، بحجة أن ذلك خير من الفتنة وانحلال الأمة، وبمقولات الشيخ أبو الهدى الصيّادي الذي شدّد على «ضرورة» انقياد الرعية بالإذعان للراعي، وتتعزز هذه الرؤية بقدر ما تصبح المؤسسة الدينية قوية وغنية، فيما يصبح المؤمن عاجزاً وفقيراً حتى في صلب نظرته إلى حياته وتحديد معنىوجوده.
كثيرا ما استولت المؤسسات الدينية، وبخاصة الخاضعة لسيطرة الدولة، على أعضائها فتحوّل هؤلاء من أعضاء يسهمون في رسم أهدافها وتصرفها ويشاركون في تطويرها إلى قوة ضد أنفسهم. في مثل هذه الحالات، أسهم المؤمن في علاقته بالمؤسسات الدينية في تعزيز هيمنتها على حياته، كما هو الحال في علاقته بالسلطة السياسية، فتحوّل بذلك من فاعل بالتاريخ إلي منفعل به. في مثل هذا الوضع يتمّ تجريد الانسان من نزوعه الإبداعي ، ويتجلى ذلك بما يلي:
1. أصبحت المؤسسة الدينية غنية، فيما أصبح المؤمن فقيراً في قدراته المادية والروحية والفكرية. إن أول ما نلحظه في المدن ضخامة المؤسسات الدينية وكثرة أكواخ الفقراء على مقربة منها، كما في الكثير من المدن العربية.. وكثيرا ما نلحظ وجود المزارات الغنية التي يتبرع لها الفقراء من القليل الذي يمتلكون، وبقدر ما ينسب المؤمن إلى معبوداته من جبروت بقدر ما ينسب إلى نفسه من ضعف وعجز.
2. كثيرا ما طغت الطقوسية في العبادة، حتى إنه لم يعد في الممارسة الدينية من تمييز بين الوسائل والغايات الكبرى، والظاهر والمعنى، والجوهري والتفصيلي، فأصبحت كلّ هذه متساوية في قيمتها ومدلولاتها ووظائفها.
3. بقدر ما تسود التنشئة الدينية التي تدعو إلى الطاعة والامتثال، يفقد المؤمن القدرة على اتخاذ المبادرة والقيادة والعمل على استشراف المستقبل، بل في ظلّ هذه التنشئة أيضاً قد يرى المؤمن نفسه فاضلاً بقدر ما يرضخ ويطيع ويقبل بالأمر الواقع ويستسلم لمشيئة غير مشيئته. وبتعطيل طاقة الإبداع كثيراً ما ترتاح الغالبية العظمى من الناس إلى اللغة الجاهزة وإلى التكرار والتبسيط والطقوسية.
4. يغترب المؤمن في ذاته ودينه بقدر ما تتمكن السلطة السائدة من استخدام الدين كأداة سيطرة.
بسبب كل هذه النزعات الدينية وغيرها، وهي واسعة الانتشار في المجتمع التقليدي نجد أن الإنسان يغترب في الدين كما يُفرض عليه ويُمارس في الحياة اليومية، فيعيش في حالة من العجز، وليس القدرة على التحكم في مصيره بحسب مشيئته، والميل إلى التقليد لذاته، والعيش في الهامش وليس في مركز النشاطات الإنسانية الفاعلة في تغيير التاريخ البشري وليس من الغريب أن تطالب الحركات الدينية بالعودة إلى الماضي البعيد متجاهلة الواقع الاجتماعي والتاريخي الحاضر، فهي تنطلق من منهج مثالي طوباوي مطلق يناقش الأمور خارج سياقها.
من كتاب:
الاغتراب في الثقافة العربية: متاهات الانسان بين الحلم والواقع. حليم بركات. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. 2006. ص 125 - 126.