سلام حمدان
قد يثير هذا العنوان بعض الاستفزاز ويدعو للتساؤل حول بعض المبالغة ربما، لكن التراجيديا أو الكوميديا "السوداء جدا" تحتاج الى تكثيف، قد يبدو زائدا عن الحد أحيانا، الا أنه مقصود لوضع القضية المعنية تحت المجهر ولفت الانتباه لها.
بعد آخر مقالين كتبتهما على نفس هذا العامود، انهالت عليّ الاتصالات والرسائل البريدية، والتي جاءت في غالبيتها العظمى من نساء تعرضن لمواقف جارحة وضعتهن وجها لوجه مع حقيقة كونهن "مواطنات نص كم"، وهو عنوان مقالتي المذكورة، السابقة. لم يشفع لبعضهن اشغال مناصب عليا وتبوأ مكانة اجتماعية مرموقة كشخصيات عامة. فأمام "القانون" وبعض "السياسات" النساء سواسية، الا في حال توّفر شيئا من "الواسطة" لتيسير سير بعض الأمور العاجلة والتي لا تصيب منتفعتها بالراحة، بل تترك، في واقع الحال، غصة ومرارة.
أكثر ما أثّر بي وأرّقني قصة الصبية رهام ذات الثلاثة وعشرون ربيعا والتي روتها لي والدتها بصوت يغلبه الحزن والغضب في ذات الآن. القصة تعود الى عام 2004 حيث كانت البلاد لا تزال تحت وطأة الاجتياحات الاسرائيلية المتكررة والحصار والاغلاق، ورهام صبية متفوقة أكاديميا ، طموحة للغاية، ومثل الكثر من جيلها، سقفها السموات العلى. لتستثمر الوقت العالق، عمدت رهام الى المشاركة في دورة تدريبية في مدينة بيت لحم، وسافرت ثلاثة أيام في الأسبوع من رام الله لبيت لحم برفقة زميلها ابن الجيران. الدورة التدريبية تبدا في الثالثة عصرا وتنتهي في الخامسة، بحيث يقفل الشابين عائدين الى أهلهما في رام الله ، التي تبعد ساعة واحدة فقط اذا ما كان مزاج الجند، على الحواجز، رائقا.
في أحد الأيام المشؤومة، حيث مزاج الجند معتكرا، أقفل حاجز بيت لحم (المسمى بالكونتينر) تماما. لا سيارات ولا مترجلين يعبرون في أي اتجاه. ليس في الأمر خيارا. لا بدّ من العودة الى بيت لحم.
هاتفت رهام والديها تعلمهما بالأمر. أمرا شائعا، بات مألوفا، تحت الاحتلال. والاحتلال جحيم الجميع، الا أن وطأة تبعاته لا تطاق على النساء اللواتي ينلن ما لا يصدق من جحيم "العادات والتقاليد" على حد سواء!
تشاور الاهل مع رهام حول الخيارات المطروحة، ولا بديل عن الاتجاء الى أحد فنادق بيت لحم لقضاء الليل والعودة صباحا اذا ما تبدّل مزاج جند الاحتلال، بعون الله. وبذا عادت رهام برفقة ابن الجيران الى بيت لحم ليتوجّها فورا الى فندق معروف وجيد السمعة لاستئجار غرفتين لقضاء الليل.
على الاستقبال، "الرسبشن"، وقف رجل وامرأة متأنقين، مبتسمين. تقدمت رهام وزميلها صوبهما وطالبا بغرفتين منفصلتين لقضاء ليلة واحدة.
"يمكن لك استئجار غرفة أما الصبية فلا"، قال موظف الاستقبال، متوجها للشاب ولا زالت الابتسامة تعلو محياه. "كيف ذلك؟ "لماذا؟"، "ما السبب" ، "ماذا تقول"؟ انهالت أسئلة رهام وزميلها. "لا نستقبل فتاة وحدها دون اهل أو زوج".
"ولكني لست فتاة صغيرة، اليك بطاقتي، أنا خريّجة جامعية وبالغة راشدة". "نأسف، لا يمكن. نستطيع فقط استقبال الشاب" قال الموظف وتوجّه نحو ابن الجيران ببطاقة تسجيل بيانات لملئها.
وقفت رهام هناك في حالة دهشة وحيرة. لا تستوعب الموقف بعد. "ولكن لماذا؟ لو سمحت قل لي لماذا؟" والتفتت الى الموظفة لتوجيه نفس السؤال، ربما في حالة يأس وضنك، طلبا للتعاطف: "لماذا أنا لا؟ ممنوع عليّ الدخول؟".
"يا أختي لا يمكن لفتاة وحدها النزول لدينا" قال الموظف بابتسامة صفراء، مشددا على كلمة "وحدها" للايجاب على السؤال على أكمل وجه!
الفوضى التي أثارتها رهام في قاعة الاستقبال، جذبت عددا من الناس، من موظفي الفندق، ومن النزلاء أيضا. "هل تعتقدي أنه من الصحي والسليم أن نسمح بنزيلات شابات يأتين متى شئن الى الفنادق؟"
"ولكن ماذا تقول؟ انا سيدة محترمة." قالت رهام وهي تحاول جاهدة كبت دموعها وغضبها. التفتت حولها بقلق. العيون كلها مصوّبة نحوها تنطق بالاتهام والتشكيك، وبعضها ينوء بالاحتقار.
"أتعرف ماذا، يمكنكم حبسي بالغرفة حتى الصباح، اغلقوا الباب عليّ بالمفتاح، وأفتحوا لي صباحا. أنا فقط بحاجة الى قضاء الليل، فالحاجز مغلق ولا مكان اذهب اليه. لا يستطيع أيضا أيا من اهلي القدوم لمرافقتي وجعل اقامتي لديكم شرعية وأخلاقية!" "نأسف يا أختي. غير ممكن". قال الموظف وأستدار للعمل على ملفاته، في ايحاء مباشر لانهاء الحديث. "ماذا؟ هل هذا قانون يحرّم على النساء النزول دون رقيب في الفنادق؟" . "هي سياسة الفندق يا أختي".
خرجت رهام الى الشارع باكية. توجعها المهانة والمذلة أكثر من قلق ظلام الشارع وسكونه. هاتفت والديها طلبا لاستشارة. فحاول الاخيرين الحديث مع أحد مسؤلي الفندق، دون فائدة ترجى. توجهّت مع زميلها الى فندقين آخرين لتواجه بنفس الأجوبة: " لا مكان لأمرأة نزيلة دون –محرم-". تقدّم الليل ورهام تجوب الشوارع. الأهل في حالة قلق وقهر جنونين يهاتفون من رام الله البعيدة. وبعد مداولات واتصالات ووسائط عديدة، تمكنّت رهام من النزول في أحد الفنادق الصغيرة من الدرجة الثالثة!
اذا لا يقبع الاحتلال على أبواب المدن والقرى فقط، بل يسكننا حتى أقصى أعماقنا. هل كان هو دوما السبب الرئيس في تأخرنا ورجعيتنا؟ في عدم قدرتنا على التطور ومواكبة العصر؟ في سلفيتنا وأبويتنا وقبليتنا وتراتبيتنا..؟
هل مصيبتنا مع أعدائنا في الفارق العسكري والاقتصادي فقط؟ وماذا عن الفارق الحضاري المهول؟ وهل تعيقنا اسرائيل عن تطوير بعدنا الانساني والاقرار ، أخيرا، في القرن الحادي والعشرين، أن المراة انسان ذو كرامة وكبرياء واحترام وعقل وضمير وأخلاق وقيّم...لا تنفلت من عقالها بمجرد ارخاء الرسن عنها؟!!
وفي نفس السياق، في ثقافة شيزفرينيا العار والأخلاق الحميدة، شيزفرينيا المرأة الأم العظيمة البطلة –الضعيفة التي لا حول لها. لا تقّبل النساء الحوامل في المؤسسات.
لقد تلقيت أيضا رسالة من شابة تشكو هذا الحال، كما وعاصرت عددا من النساء اللواتي واجهن صعوبات مريرة مع العمل أثناء الحمل والوضع. الشابة ذكرت لي أنها تلّقت علاوة لحسن أدائها لكن ما أن اتضح حملها –في نفس الفترة- حتى تسلّمت رسالة بانهاء خدماتها، وفي نفس الاسبوع تم تعيين شابة اخرى، صغيرة، غير متزوجة، وبخبرة أقل، في مكانها. هل هذا اسفاف ومبالغات؟ حوادث صغيرة هنا وهناك لا تعني الكثير؟
ربما لو أمعنا النظر قليلا، وحاولنا ان نرى ونقّيم الأمور، بمنظار الآخر –كما تعلمنا مرارا وتكرارا في ورشات عمل المجتمع المدني اللانهائية- لرأينا ما يحدث فعلا، وأي مرار تعانيه النساء في وطن يتغنى بالديمقراطية والتعددية، ويرفع فيه اليساريون والليبراليون شعارات كبرى، كما ويباهي فيه الاسلاميون السياسيون ب "احترام وتقدير" مفرطين للمرأة، التي ان لم يحكم لجامها ويشد وثاقها جيدا، تفلت تماما من عقالها وتفقد صوابها وأخلاقها وشرفها، الذي هو ملك للآخرين دونها!
يصدّق ان لا يكون لنا مطار تحت الاحتلال، ويصدّق ان لا يكون لنا حق المرور في دولة "ابرتهايد"، ويصدّق أن يحرمنا اعداؤنا من الصلاة في مساجدنا وكنائسنا، ولكن هل يصدّق ويعقل ويستوعب ان لا يكون لنا غرفة في فنادقنا؟
ولا هامش حقيقي من الكرامة في مواطنتنا، في عقر دارنا؟
عن "الأيام"، أقلام حرة