الدكتور هشام غصيب
الرئيس السابق، جامعة الأميرة سميّة للتكنولوجيا، عمّان، الأردن
للمبادئ الكونية خصوصية مميزة مقارنة مع غيرها من مبادئ علوم الطبيعة، وذلك بالنظر إلى الأبعاد الشاسعة في المكان والزمان التي ينبغي مجابهتها عند دراسة الكون، وبالنظر إلى الكون يشكّل مجمل الوجود المادي، أعني الكل المادي. وينعكس ذلك كله على صعوبة استنتاج المبادئ الكونية من المبادئ المعروفة لدينا على أساس خبرتنا المحدودة في المكان والزمان.
ففي حال علم الكون، فإننا نتعامل مع أكثر الأسئلة والمفهومات جذرية وأعمقها وأكثرها ضبابية؛ لفرط عموميتها. فنحن نتعامل مع الكل المادي ذاته. وعليه، وإذا أردنا مما نضعه من نظريات أن يستوعب مفهوم الكل المادي، كنا مضطرين إلى الولوج في موضوعات خارج النطاق التقليدي لعلوم الطبيعة، مثل الفلسفة والمنطق.
فنحن نسعى في علم الكون إلى الإجابة عن أسئلة كالآتية:
هل إن الكون أزلي، أم إنه أبدي، أم كلاهما معاً؟ أم هل نشأ منذ فترة محدودة؟ وهل سوف يتوقف وجوده في لحظة ما في المستقبل؟ وما معنى توقفه عن الوجود وانتهائه؟ وإن كان الكون أزلياً، فكيف نوفق بين ذلك وبين القانون الثاني في الثيرموديناميكا والذي ينص على أن أي نظام مادي مغلق مآله الموات الحراري في غضون فترة زمنية محدودة؟ وإن كان قد نشأ قبل فترة زمنية محدودة، فكيف نشأ؟ وهل يجوز أن نسأل: ممّ نشأ برغم أنه، بحكم تعريفه، الكل المادي الذي لا شيء خارجه؟
هل نشأ الكون من العدم؟ ولكن، ما العدم؟ هل هو حالة من حالات الوجود؟ أم إن الوجود هو حالة من حالات العدم؟ بمعنى آخر، هل يجوز أن نفصل العدم مطلقاً عن الوجود؟ أم هل ينبغي توحيدهما جدلياً وإزالة الجدار الفاصل المطلق بينهما، كما فعل الفيلسوف هيغل منذ ما ينوف عن قرن ونصف القرن؟
كذلك، فحين نتكلم عن نشوء الكون، فهل نعني نشوء المادة في المكان والزمان؟ أم هل نعني نشوء المكان والزمان ذاتهما أيضاً، على اعتبار أن المكان والزمان امتداد حتمي للمادة؟ أم هل إن المكان والزمان إطاران لازمان سابقان للوجود المادي ومستقلان في النهاية عن المادة؟ هل نتبع رأي آينشتاين القائل بأن وجود المكان والزمان إياه ينبع من المادة والطاقة، أم نتبع رأي "دي سيتر" القائل بأن بعض خواص المكان والزمان فقط تتأثر بالمادة والطاقة، لكن وجودهما مستقل عنهما؟
المادة قبل المجال الجاذبي - أم العكس؟
ولكن، إذا كانت لحظة نشوء الكون هي أيضاً لحظة نشوء المكان والزمان، فممّ نبع هذان الإطاران الجذريان؟ هل ثمة بنى مادية أكثر جذرية وأوّلية منهما ولا يتمظهران إلا في النقط المنفردة SINGULARITIES كالثقوب السوداء؟ ثم، هل إن المادة هي منبع المجال الجاذبي، كما تنص نظرية نيوتن، الشكل الكلاسيكي لنظرية النسبية العامة؟ أم، هل العكس هو الصحيح، كما دلّت الكشوفات النظرية التي توصل إليها مؤخراً ستيفن هوكنغ في كيمبردج وروبرت بنزوز في اكسفورد؟ أعني، هل إن وجود نقطة منفردة لانهائية الانحناء الزمكاني يؤدي حتماً إلى خلق المادة من العدم بصورة تلقائية؟ وهل يجوز تطبيق المفهومات العلمية الجذرية والعامة التي أنتجناها في ضوء خبرتنا المحدودة على الكل المادي، وبخاصة في لحظة مولده؟ فمثلاً، هل في مقدورنا إعطاء تعريف دقيق للطاقة الكلية للكون، من ثم هل في مقدورنا تطبيق قانون حفظ الطاقة عليه؟ وبالمثل، هل في مقدورنا إعطاء تعريف للإنتروبيا الكلية للكون، وهي الكمية التي تشكل مقياساً لدرجة الترتيب في نظام مادي، ومن ثم هل في مقدورنا تطبيق القانون الثاني في الثيرموديناميكا على الكون بوصفه كلاً؟
علاقة المستقبل بالماضي
وأخيراً وليس آخراً، فهل في مقدورنا تطبيق مبدأ العلّيّة على الكون بوصفه كلاً؟ وبصورة خاصة، كيف يمكن تطبيق هذا المبدأ على لحظة نشوء الكون، بما في ذلك نشوء الزمان، في الوقت الذي يفرض فيه هذا المبدأ الزمان؟ كذلك، ما العلاقة الحقيقية التي تربط المستقبل بالماضي؟ هل إن المستقبل يحدّد الماضي كما يحدّد الماضي المستقبل؟ ولا تظنّن أيها القارئ الكريم أن هذا سؤال جنوني متناقض مع ذاته ومع مسلّمات المنطق. فثمة حلول لمعادلات النسبية العامة وميكانيكا الكم تشير إلى إمكانية مثل تلك العلاقة. ولكن، إذا كانت تلك العلاقة ممكنة، أفلا يدلّ ذلك على أن العقل يدخل في تركيب الوجود المادي مثلما يدخل الأخير في تركيب العقل؟
كذلك، هل إن المبادئ الكونية المستقاة من خبرتنا المحدودة أكثر جذرية من وجود الكون، بمعنى هل يمكن اشتقاق وجود الكون منها؟ أم هل هي النتاج الطبيعي والحتمي لبنية الكون الكلية؟ ولكن، ما منبع هذه أو تلك في أي من الحالين؟
ويقودنا ذلك بدوره إلى الأسئلة الجوهرية الآتية: ما نمط التفسير الذي نصبو إليه فعلاً والذي تستلزمه طبيعة الموضوع؟ أي تفسير يرضينا فعلاً ويمكن اعتباره نهائياً بصورة مطلقة؟ ما هي مقوّمات التفسير الملائم للكل المادي؟
وهذه الأسئلة كما نرى ذات طابع فلسفي ظاهر، من حيث إنها لا تكتفي بأن تقودنا إلى التجريب والتنظير الرياضي النمطي المتّبعين في العادة في علوم الطبيعة، بل إنها تقودنا أيضاً إلى تحليلات تجريدية لا نجد مثيلتها إلا في الفلسفة والمنطق. وهذا يدلّ بجلاء على العلاقة الوثيقة القائمة بين الفيزياء والفلسفة، والأثر الحاسم الذي يتركه كل منهما على تطور الأخرى. والحق أن عديداً من الأسئلة المطروحة أعلاه مألوفة من حيث المضمون العام. إذ أنها طرحت مراراً وتكراراً منذ نشأة البشرية على ظهر البسيطة. فهي أسئلة فلسفية أزلية. لكنها ما كانت لتطرح في هذا الشكل المميز والمحدد والدقيق، ولا بهذا الزخم والتشعّب، لولا التطورات الأخيرة المذهلة في الفيزياء وعلم الكون. كما إن بعضها ما كان ليطرح على الإطلاق لولا هذه التطورات و ما صاحبها من تطورات في الجيولوجيا والبيولوجيا والفلسفة والمنطق والرياضيات.