(في باب: التعلّم)
هذه مقابلة أجريت مع الدكتور همام غصيب، أستاذ الفيزياء النظرية في الجامعة الأردنية، عضو مجمع اللغة العربية الأردني. وقد رأت هيئة تحرير موقع "لِمَ لا؟" إعادة نشر هذه المقابلة سعياً وراء تعميمها على أوسع نطاق ممكن، نظراً لما تضمنته من أفكار وقضايا على درجة من الأهمية، ولفتح باب الحوار حولها.
- هناك اعتقاد بأن اللغة العربية ليست لغة علوم. فما رأيك في هذا الاعتقاد ولماذا؟
- هذا اعتقاد تُروِّج له أقلية لا تحتل بالضرورة مركز الصدارة في حياتنا الثقافية. فهو لا يمثل رأي أغلبية المعنيين في التربية والتعليم في وطننا أو المهتمين بالممارسة العلمية من بحث وتأليف وتدريس. ولا ريب أنه نابع من تلك الهزائم المتتالية التي منيت بها أمتنا خلال القرون الأخيرة، فصدّعت كيانها الوجداني، وزعزعت ثقتها في هويتها الحضارية. واللّغة، من قبل ومن بعد، هي انعكاس صادق لحال الأمة: تكبو بكبوتها وتنهض بنهضتها، فهذا الاعتقاد، إذن، إن هو إلا سمة من سمات فلسفة الانحطاط وعصر الانحدار. أما نقيضه فسيكون حتماً من أبرز عناصر عصر التنوير والازدهار الذي يمهد له بعضنا الساعة بكل ما أوتي من طاقة والذي بدأنا نلمس إرهاصته رغم تراكم الرزايا والمحن.
إن اللغة العربية أداة دقيقة قاطعة لمن يمتلك ناصيتها ويفقه مكنوناتها. والتاريخ لشاهد على أنها لم تعجز قط عن استيعاب علوم الدنيا. بل إن الصحافة العربية ـ على ما فيها من مثالب ونقائص ـ خير دليل على ذلك، فهي تعمم آخر المفاهيم والتطورات العلمية دون أية صعوبة تذكر وبلغة عربية مفهومة في كثير من الأحيان. كما أن هنالك في وطننا العربي من يفكر في المسائل العلمية ويحاضر أو يكتب عنها بلغة عربية تتدفق حيوية وإشراقاً.
ولا أنسى هنا أن أنوه بإنجازات المجامع العربية الهائلة في مجال تعريب العلوم. فالعلّة -في نهاية المطاف- إنما تكمن فينا، وليس في لغتنا.
- أيهما أفضل: تعريب التعليم الجامعي أم إبقاؤه على الوضع الحالي؟
- هل تعرف ماذا يعني إبقاء التعليم الجامعي على وضعه الحالي؟ إنه يعني أولاً استمرار في استخدام لغة إنكليزية غالباً ما تكون مشوّهة في أروقة كليّاتنا العلمية. ويعني ثانياً عدم استيعاب طلابنا لما نتحذلق به من مفاهيم وأفكار. كما يعني ثالثاً انصراف جلّهم إلى العراك مع اللغة الأعجمية، فلا يبقى لديهم الوقت الكافي كي يسبروا أغوار علمهم وتخصصهم. ويعني رابعاً تلك المآزق الكثيرة التي يقع فيها المدرّسون المتخرّجون من جامعات غير إنكليزية أو أمريكية.
ثم إن ثمة قضايا أعمق تتعلق بهذا السؤال....هنالك أولاً الشعار الذي طرحته في مناسبة سابقة، أعني: "لا تنمية دون تعريب". فمشكلة التنمية تقبع أولاً وأخيراً في التربية والتعليم؛ ذلك أن المحور هنا قضية تكوين الإنسان فكرياً وعملياً ووجدانياً. وواضح أن البيت والمدرسة والجامعة معامل جوهرية يبني في رحابه الشطر الأهم من مستقبل الأمة. وبعد ذلك فقط تأتي التقنيات والماديات التي يتنطع في محاسنها متحذلقو هذه الأيام.
من هنا كان مبدأنا: لا تنمية دون تعريب. فالتنمية عملية معقدة متشابكة تشكل هرماً هائلاً: قاعدته تشمل الجمهور الواسع العريض؛ بينما تخص ذروته الصفوة ومجالاتهم المُغرفة في التخصص. فثمة مفارقات وتناقضات إذن لا بد من إذابتها وحلها لدى كلّ القطاعات والمستويات إذا أردنا تحقيق تنمية خلاّقة: فكيف نعمّم وسائل التنمية وفلسفتها ومنهجيتها دون تعريب شامل قلباً وقالباً يربط بين سفح الهرم وقمّته؟ وكيف يمكن أن نراكم تجارب فوق تجارب دون تعريب حقيقي؟.. أعني ذلك التعريب المتكامل الذي يقنع إلاّ متى شمل سائر المستويات من المدرسة الابتدائية حتى الحرم الجامعي المتخصّص، وجميع القطاعات أيضاً من أكاديمية وصناعية وخلافها.
المسألة في النهاية مسألة أولويات. وفي يقيننا أن الأولوية الأولى ينبغي أن تعطى للتعريب الجاد، فعنه ينبثق كل تطور راسخ. وإشكالية الأصالة والمعاصرة ما هي في خاتمة المطاف سوى معركة بكل جوانبها... التعريب الذي يفهم التيارات المعاصرة بعمق كي يستوعبها في قالب مميز أصيل، والتعريب الذي لن يفلح في ذلك إلا متى هضم أبرز ما في التراث وأحياه.
وهناك ثانياً مسألة الثقافة الثالثة التي طرحتها أيضاً من قبل. دعني استطرد قليلاً لأفسر معنى هذا التعبير... إن مصطلح الثقافتين قديم ومعروف؛ حيث تشير الثقافة الأولى إلى الإنسانيات، والثانية إلى العلوم.
وهذا المصطلح شاع أكثر ما شاع في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات عندما نشر الفيزيائي والروائي الإنكليزي "سي بي سنو" C.P.Snow كتابة الذائع الصيت "الثقافتان والثورة العلمية" (1959). فقد لاحظ سنو آفة كبرى في المجتمع المعاصر، ألا وهي الشرخ العميق بين أصحاب هاتين الثقافتين.
من هنا جاءت فكرة الثقافة الثالثة المكونة من نظام متكامل من الحساسيات والأساسيات الهادفة إلى ردم الهوة التي تفصل بين أصحاب الثقافتين وإلى خلق الإنسان العصري الكفء الذي يستطيع أن يواكب تيارات العصر ويستوعبها إلى حد معقول.
فالسؤال الجوهري: إذن ليس: أن نعرّب أو لا نعرّب التعليم الجامعي (إذ إننا تجوازنا هذه المرحلة منذ زمن بعيد)، وإنما: كيف نعرّب بإبداع وأصالة وعنفوان.
- هل يمكن للغة العربية أن تستوعب جميع العلوم؟ وكيف نستطيع أن نحقق ذلك؟
- لا أشكّ مطلقاً في مقدرة اللغة العربية على استيعاب جميع العلوم. ويزداد تفاؤلي في هذا السياق كلما تأمّلت في تجارب اللغات الروسية والصينية واليابانية.
لكن تحقيق ذلك لن يتم بالتمنّي وإهدار الكلام، بل بالممارسة الأمينة والتطبيق الواعي. وهنالك معركتان في هذا الصدد: معركة المدى القصير والمتوسط، ومعركة المدى الطويل. فالمعركة الأولى تقتضي تكافل كل الأكفياء في وطننا العربي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتعبيد الطريق لأجيال المستقبل.
وكلنا بحاجة إلى تثقيف ذاتي في هذا المضمار. والقضية في النهاية قضية تعبئة عامة واستنفار كل قوانا.
أما المعركة الثانية فتقتضي أن نعود إلى البراعم الصغيرة... إلى أطفالنا والنشئ الجديد، فنعلمهم بالقدوة والمثال في المدرسة والبيت، ونضع بين أيديهم كتباً علمية شائقة بلسان عربي مبين ونثر ناصع شائق. فهم الأمل وهم الغد. ولن يُحقّقوا مُبتغانا دون دموع وعرق ودماء. فالجهاد طويل لأن المعركة في النهاية هي معركة الحياة برمّتها. عن "آفاق علمية"