"هل العقل العربي عاجز عن الخلق والإبداع العلمي؟"
هذا رد الدكتور فؤاد زكريا على ذلك التساؤل:
في المعالجات المعاصرة لمشكلة العلاقة بين الإنسان العربي والعلم، يبدأ الباحث عادة بالتغني بأمجاد العرب، خلال عصرهم الذهبي، في ميدان البحث العلمي، ويحصي عشرات من الأسماء ومئات من الكشوف والابتكارات، لكي يثبت أن العرب قادرون على أن يفوقوا شعوب العالم الأخرى في هذا الميدان. ومن حق كل أمة، بلا جدال، أن تفخر بتراثها، وأن تغوص في أعماقه وتعيد إحياء رسالتها الحضارية وتسعى إلى الامتداد بإشعاعها التاريخي إلى أبعد الآفاق ومن حقنا، نحن العرب بالذات، أن نبذل في هذا السبيل جهوداً مضاعفة، لأن في تراثنا جوانب ما زالت مجهولة، قد يؤدي إلقاء الضوء عليها إلى تغيير أساسي في رسم منحنى التطور الذي مرّ به الفكر العلمي عَبر العصور.
هذا كله جهد مشروع، بل هو واجب قومي جليل. ولكن الخطر كله يكمن في النتائج التي ننتهي إليها حين نتأمّل تراثنا العلمي القديم فنجده زاخراًَ بالأسماء اللامعة والكشوف الأصيلة. عندئذٍ نقفز قفزة هائلة عَبر الزمن، ونتوهم أن تفوقنا القديم يمكن أن يستعاد في ظروف العصر الحاضر، وأن وجودنا في الصف الأوّل بين أمم العالم، يوماً ما، هو شهادة من التاريخ بأننا قادرون على أن نحتل مرّة أخرى، في ميدان العلم، مكاناً رفيعاً بين أمم الأرض.
والقضية التي أودّ أن أُدافع عنها هي أن هذا الربط بين التاريخ والحاضر قد يفيد في استنهاض الهمم ورفع المعنويات، ولكنه لا يصمد أمام أي تحليل عقلي دقيق. فليس في التاريخ البشري أمجاد معنوية تتحول إلى جزء من "الجينات" المكونة لشعب من الشعوب (إن جاز لي أن أستخدم هذا التعبير). وتظل كامنة في أفراد هذا الشعب على شكل استعداد للنهوض ينتظر اللحظة المناسبة لكي يصبح واقعاً متحقّقاً. وليس ثمة ما يحول من أن يكون الماضي مجداً رائعاً، ويكون بيننا، بصورة غامضة حيناً، وصريحة حيناً آخر، بأن الماضي يترك في زوايا مجهولة للعقل أو الروح أو النفس شيئاً يظل سارياً عَبر الأجيال، وكل ما علينا هو أن نجلو عنه الصدأ ليعود معدنه الأصيل إلى اللمعان. فهذه كلها عبارات إنشائية، نقولها لكي نعزي أنفسنا عن واقع أليم لا نعرف كيف ننتشل أنفسنا منه. أما الحقيقة الجافة، المجرّدة، فتقول إن قطار التقدم لن يتوقف في مكانه، إكراماً لماضينا، ويلقي علينا، وهو يبتعد عنا، نظرة ساخرة، ما لم نحشد في حاضرنا شعوباً كانت لها في الماضي أمجاد رفيعة، ثم أصبحت اليوم منسية، ولم يستطع ماضيها أن ينفعها بشيء في وجه حاضر صارم لا يُجامل أحداً.
إننا نتصور أن التاريخ يؤمن، مثلنا، بالحسب والنسب، ونسقط على التاريخ تبجيلنا للأصل الرفيع والمعدن الكريم، فنتخيل أن التاريخ يعامل الأمم والشعوب على النحو نفسه، وأنه سيعطي مكانة خاصة للأمة ذات التاريخ المجيد، حتى ولو كان حاضرها منهاراً. ولكن هذه كلها أوهام صنعتها عقول تعجز عن التمييز بين تقاليد القبيلة وموضوعية التاريخ. وحين نحرّر أنفسنا منها، يتعين علينا أن نواجه الحقيقة القاسية، وهي أن ماضينا لن يشفع لحاضرنا إلا على صفحات الجرائد وفي موضوعات الإنشاء، وإن كل شيء يتوقف على ما نبذله في حاضرنا من جهد.
ولكن الوجه الآخر للصورة، الذي حاول بعض المستشرقين أن ينشروه في وقت المد الاستعماري بوجه خاص، والذي يقول إن العرب عاجزون بطبيعتهم، وبحكم التركيب الخاص لعقولهم، عن الفكر التجريدي الذي لا يكون بدونه علم، هذا الوجه ليس أقل بطلاناً. ومن الجدير بالذكر أن أصحاب هذا الحكم الجائر يبنون حكمهم هذا على أساس أوضاع العرب في عصور التدهور، ويُعمّمون هذا الحكم على كيان مجرّد يفترضون أنه ثابت لا يتغير، ويُطلقون عليه اسماً مثل "العقل العربي"، بينما يُركّز أنصار الرأي الأول، الذين عرضت موقفهم من قبل، على عصر الازدهار العربي، ويُعمّمون ما كان يحدث فيه على كل عصر لاحق.
إن ما يُطلق عليه اسم "العقل العربي"، أو أي عقل آخر لشعب من الشعوب، يستحيل أن يكون كياناً ثابتاً ومجموعة لا تتغير من الصفات التي تظل لصيقة بهذا الشعب. صحيح أن المفكر والعالم يستطيع أن يصل إلى مجموعة من السمات التي تتكرّر بصورة ملفتة للنظر بين العقول العربية في أقطار مختلفة وأزمنة متباينة، ولكن هذه كلها سمات "مكتسبة" وليست شيئاً فطرياً أو تكوينياً على الإطلاق. وإذا كانت هذه السمات تبدو ثابتة وواسعة النطاق، فما ذلك إلاّ لأن الظروف التي ظلّت الأمة العربية تخضع لها، على فترات زمنية طويلة، ما زالت برغم اختلافها الظاهري، متماثلة.
وحسبي الآن أن أشير إلى عاملين ظلاّ جاثمين على صدر العقل العربي أمداً طويلاً، وكان لهما تأثيرهما الهدّام على قدراتنا الإبداعية حتى أن الكثيرين منا قد صدقوا تلك المقولة الظالمة التي تتهمنا بأن لنا تركيباً عقلياً يعجز عن ابتكار الحلول المستقلة والأفكار الجديدة.
أوّلاً: أوّل هذين العاملين هو التضاد المزيّف بين الدين والعلم، فهناك محاولات لا تكل للحط من شأن العلم والاستخفاف بمنجزاته، وتأكيد عجز العقل العربي وقصوره، تتم دائماً باسم الدين، وكأن قضية الدين لا تُخدم على الوجه الصحيح إلاّ إذا وضعنا العلم في قفص الاتهام. وأوضح تعبير عن هذه الاستهانة بالعلم هو تلك العبارة التي أثارت جدلاً واسعاً، والتي قال بها واحد من أشهر الدعاة الإسلاميين المعاصرين: إنّ مَنْ صنع ورقة "الكلينكس" قد خدم البشرية بأكثر مما خدمها من وصلوا إلى القمر!
والأمر الذي يثير الدهشة حقاً في هذا الموقف، هو أن دعاة مهاجمة العلم باسم الدين يقعون في تناقضين صارخين نلمس في كل يوم أمثلة لهما في كتاباتهم وأقوالهم.
التناقض الأوّل، هو أن هؤلاء أنفسهم هم الذين يفخرون بما قدمه العلم الإسلامي للغرب في الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في ظلام العصور الوسطى. فهؤلاء الدعاة الذين لا يدعون فرصة تمرّ إلاّ وانهالوا فيها تجريحاً في العلم وتهويناً من شأنه، هم أنفسهم الذين ينتهزون كل فرصة لكي يؤكدوا فضل العلم العربي على أوروبا، وكيف أن نهضة أوروبا الحديثة ما كانت لتتم لو لم يكن الأوروبيون قد استمدُّوا مقوّمات علمية وفكرية أساسية لهذه النهضة بعد اتصالهم الوثيق بالعرب في الأندلس وفي صقلية وفي الحروب الصليبية. فكيف يتهم هؤلاء الدعاة العلم بأنه شيطان يسعى إلى زعزعة الإيمان الديني من ناحية، ويرون فيه، من ناحية أخرى، مصدر فخر واعتزاز؟ أليس العلم ومنهجه، ونوع الملكات العقلية التي يستعين بها، والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، سلسلة واحدة متصلة الحلقات؟
أمّا التناقض الثاني، فهو أن الكثيرين من هؤلاء الدعاة ينتمون إلى تلك المدرسة التي تسعى إلى تفسير النصوص الدينية تفسيراً علمياً، وترى في بعض الآيات إشارات واضحة إلى نظريات لم يكتشفها الإنسان إلاّ حديثاً. ورغم أن المجال لا يتسع هنا للدخول في جدال حول مدى صواب الاتجاه الذي تمثله هذه المدرسة أو خطئه، فإننا نودّ هنا أن نقتصر على تسجيل التناقض الذي يقع فيه هؤلاء. فإذا كانت النصوص الإلهية تقدم إلينا إشارات ذات طبيعة علمية على أعلى مستوى – وهي النتيجة التي يجهد هؤلاء الدعاة أنفسهم من أجل الوصول إليها – فإن النتيجة المنطقية لذلك هي ضرورة الإعلاء من قدر العلم، ما دام انكشاف حقائقه بالتدريج أمام عقل الإنسان ما هو في الواقع إلاّ تحقيق لمشيئة إلهية عبّرت عن نفسها من خلال تلك الإشارات القرآنية التي لا يعجز المرء عن الاهتداء إليها لو امتلك القدرة اللازمة على التفسير.
ولكن الأمر المؤسف هو أن أصحاب هذه الآراء لا يدركون ما يقعون فيه من تناقض، بل إنهم ربما لم يكونوا أصلاً ممن يقيمون وزناً للتناقض. وهكذا ينشأ جيل كامل يستمع إلى آراء لا تملّ من تحذيره من مخاطر العلم، ولا تكفّ عن إبداء احتقاره لأي نشاط تقوم به عقولنا في ميدان البحث والكشف والابتكار، ولا بد أن يكون هذا كله عاملاً معوّقاً للقدرة على الإبداع العلمي لدى أبناء هذا الجيل.
ثانياً: أما العامل الثاني الذي يقف عقبة مباشرة في وجه روح الابتكار العلمي في مجتمعنا العربي، فهو سيطرة فكرة السلطة على تفكيرنا وأساليب تعاملنا. وأنا أعني بالسلطة هنا ما هو أوسع كثيراً من سلطة الحكومة. فالسلطة هي في ذلك المصدر الذي يُملي على المرء طريقة في التفكير بحيث يتعين عليه أن يقبلها ويستسلم لها بلا نقد أو مناقشة.
ومن الواضح أن الإنسان العربي يتعامل طوال حياته مع أشكال متعدّدة للسلطة تعمل على أن تقتلع جذور التفكير الإبداعي في عقله.
فهو في طفولته يتعامل مع سلطة الأسرة التي يندر أن تسمح بالمناقشة والنقد والحوار بين أفرادها، وإنما تعمل منذ اللحظة الأولى على سحق إرادتهم وإملاء أوامرها عليهم دون أية محاولة لمخاطبة عقولهم والسعي إلى إقناعهم.
وفي مراحل التعليم المختلفة يتعرّض النشئ العربي لواحد من أخطر أنواع السلطة، قد يظل تأثيره السلبي ملازماً له طوال حياته. فالتعليم يُقدّم إلينا في معظم الأحيان على أنه كمية من المعلومات ينبغي أن تستوعب على ما هي عليه. وعلى الرغم من أن التربويين لا يملون من تكرار الحديث عن ضرورة تنمية ملكات الخلق والابتكار في عقول طلاب العلم، فإنهم يرون أمامهم كل يوم نماذج كاملة للتعليم دون أن يحركوا ساكناً. ويكفي أن "الاجتهاد" في استذكار الدروس حرفياً، ما زال هو معيار التفوّق الأوحد في مدارسنا. ويكفي أن امتحاناتنا في كافة مراحل التعليم لا تكاد تختبر إلاّ ملكة واحدة لدى الطالب، هي ملكة الذاكرة، التي أصبحت الآن، في عصر الحاسبات الإلكترونية، أقل الملكات العقلية أهمية. وهكذا يتحوّل الكتاب المدرسي إلى سلطة لا تناقش، والمعلم إلى ناطق بلسان هذه السلطة، والامتحان إلى مسابقة في التعبير عن الولاء لها والإذعان لأوامرها. أما اكتساب المنهج النقدي والقدرة على التفكير المتحرّر المستقلّ، التي تتيح للنشئ مواجهة المواقف الجديدة والانطلاق في آفاق الإبداع الحرّ، فإن نظامنا التعليمي، حتى في مرحلته الجامعية، يكاد لا يلتفت إليها.
إن الحديث عن موضوع السلطة يمكن أن يطول إلى حدّ يتجاوز بكثير كل ما يمكن أن يستوعبه ردّ قصير كهذا. ولكن يكفي أن نشير في عجالة إلى أن الإنسان العربي، بعد أن يتلقّى تعليمه في ظل منهج سلطوي، يدخل في علاقات سلطوية أخرى مع المجتمع، الذي يفرض على الناس قيمه على أنها سلطة لا تناقش، وينظر إلى أية محاولة لتغييرها أو تطويرها، على أنها تمرُّد وانحلال. وهو يدخل في علاقة سلطوية مع رؤسائه في العمل، الذين تمثل أوامرهم الصارمة، في أغلب الأحيان، سلطة لا بد أن تطاع. أما السلطة التي تفرضها الدولة وأنظمة الحكم على الإنسان العربي فهي أمر معروف ومتداول إلى حدّ يغنينا عن ترديده في هذا المقام. ويدخل في هذا الإطار سلطة الأفكار السطحية التي تقدمها أجهزة إعلام موجهة أحادية الجانب، تقف موقف العداء الشديد من الفكر المغير لتوجهاتها، ومن أية محاولة للوصول إلى حقائق مستقلة عن "حقيقتها" المشبوهة، وتضاف إلى هذا كله طريقة في تفسير الدين تؤكد فيه جانب السلطة وتقلل من شأن الجوانب الإنسانية والعقلية والوجدانية.
مع هذه السلطات يتعامل الإنسان العربي منذ اللحظة التي تتفتّح فيها عيناه على نور الحياة حتى لحظة وداعه لهذه الحياة. وكل سلطة يخضع لها إنما هي معول يهدم فيه روح الإبداع والخلق. فإذا قيل لنا إن الإنسان العربي غير مبدع، كان ردّنا البسيط، والقاطع، هو أن كافة الصفات التي تُلصق بشعب معين إنما هي وليدة تراكم طويل للخبرات والتجارب التي مرّ بها هذا الشعب، وإن التجارب التي عانى منها الإنسان العربي، وما زال، تدفعه كلها في طريق المسايرة والانصياع والخضوع. ويوم ينفض هذا الإنسان عن نفسه ركام القهر، بكافة أشكاله، سيتفجّر فيه من الطاقات ما يضعه في مصاف الشعوب المبدعة في كافة المجالات.
عن مجلة "آفاق علمية"