من التراث العلمي
الكندي فيلسوف العرب
د. أحمد سعيدان
عميد كلية العلوم في الجامعة الأردنية سابقاً، عضو شرف في مجمع اللغة العربية الأردني
الكندي هو أبو يوسف، يعقوب بن اسحاق الصباح، الكندي أبوه، اسحاق بن الصباح، كان أميراً على الكوفة، في خلافة المهدي والرشيد. وجدُّه الرابع هو محمد بن الأشعث ابن قيس. والأشعث، صهر أبي بكر الصديق، وكان آخر ملوك كندة، حكام حضرموت واليمامة والبحرين، قبل الإسلام. وصلت إليه الدعوة الإسلامية في دار ملكه، فركب في ستين فارساً، ووفد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسلم في حضرته. وقد تزوج الأشعث بنت أبي بكر، فولدت له ولداً سماه محمداً. ومن نسل محمد، حفيد أبي بكر، جاء فيلسوف العرب، يعقوب بن إسحاق الصبح.
أما الأشعث فقد التحق بجيش المسلمين، وشارك في دحر جيوش الروم في الغرب، وهدِّ شوكة الفرس في الشرق: فقد خاض معارك اليرموك، والقادسية، والمدائن، وجلولاء، ونهاوند. وكان مع عليٍّ كرم الله وجهه، في معركة صفين، ومع دعاة التحكيم في النزاع بين عليّ ومعاوية.
وفي عهد الرشيد (170 / 789 / 193 / 809) ولد يعقوب في الكوفة. لا ندري متى بالضبط. ولكن قدَّر بعض الباحثين أن ذلك كان حوالي سنة 182. كان ذلك في مطالع القرن التاسع الميلادي، على كل حال.
وفي الكوفة تلقى يعقوب تعليمه الأولي. ثم توفي والده، وقد ترك له بعضاً من رزق يُغنيه عن الناس. فانتقلت به أمّه إلى البصرة، حيث مسيرته الدراسية، إلى أن رأى أن يشدَّ الرحال إلى بغداد ليُكمل مسيرته. وفي بغداد برَّز صاحبنا في كل علوم زمانه، من فلسفة ومنطق وعلم الكلام، ومن رياضيات وفيزياء وفلك وموسيقى. وكان اهتمامه الذي شد أنظار الناس إليه: الفلسفة. فقد كان العهد بها أن يتولاّها السريان والفرس. لهذا لـُقـِّبَ صاحبنا الكندي بفيلسوف العرب.
وقد أعجب به الخليفة المأمون فاختاره للإشراف على ترجمة الكتب الفلسفية في بيت الحكمة. وقد وصل إلينا بعض من الكتب ترجمها قسطا بن لوقا البعلبكي وصحّحها الكندي، وما وصل إلينا قليل. إلا أن أبا معشر الفلكي الذي كان معاصراً له، ينقم عليه اشتغاله بالفلسفة، قال: "إن حذاق التراجم في الإسلام أربعة: حنين بن إسحاق، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وثابت بن قرة الحراني، وعمر بن الفرُّخان الطبري". ولقد كان حنين وثابت أكبر المترجمين بحق، فوضع الكندي بينهما دليل على أن معاصريه عرفوا عنه ما لم يصل إلينا عمله.
وقد اتصلت صداقة الكندي للخلفاء العباسيين، ولم تنقطع حبال الودّ بينه وبينهم حتى أواخر أيام المتوكل. حتى أن المعتصم استدعاه إلى "سُرَّ مَنْ رَأَى" ليكون مربياً لابنه أحمد. ولقد أهدى الكندي بعضاً من كتبه إلى المعتصم وابنه. ويبدو أنه بعد وفاة المتوكل (سنة 247 / 861) فترت علاقة الكندي بالقصر، أو لعلّه آثر العزلة والراحة، والانصراف للكتابة والتأليف. وقد ظل، كغيره من علماء الإسلام، يُنتج ويُبدع إلى أن توفي حوالي سنة 195 / 873م، من مرض في ركبته. قبل ذلك بسنتين ولد الفارابي. وبعد ذلك ببضع سنوات ظهر البتاني. وهكذا كُنّا في القرن الثالث هجري: نجوم السماء كلما غاب الكوكب بدا كوكب تأوي إليه كواكبه.
نقمة المتوكل
إذن فقد امتد الأجل بالكندي من حوالي 800 إلى حوالي 873 ميلادية: مدة غير قصيرة بالقياس إلى أمر الرجال، ولكنها ليست بالغة الطول في أعمار الدول، ومع ذلك فقد شهدت لا أقل من أحد عشر خليفة، بدءاً بالرشيد، وانتهاء بالمعتمد على الله. بقد بدأت والدولة الإسلامية في أوج قوتها، وانتهت وفي الدولة لكل عين بصيرة بوادر ضعف تؤذن بالتشرذم الذي شهده القرن العاشر الميلادي.
لقد شهد الكندي مجالس للمأمون مفتوحة، يجري النقاش فيها بحضرة الخليفة، بحرية مطلقة، في كل ما قد يقضي إليه الحوار، حتى ما كان منه ضد الدعوة العباسية، فلا حرج ولا قيود، سوى قيد الاحتشام والالتزام بالمنطق وعفّة اللسان.
لقد أمنت الدولة، فانصرفت تعمل على تفتيق العقول والأذهان، وتلاقح الأفكار والآراء، كيما ينجم مجتمع جديد متفتح الذهن متوثب، ذو أصالة في التوجه ورصانة في العقل. ولكن التيار جرى في غير ما رسم له، بل لعلّ المحاولة جاءت سابقة لأوانها. فقد اصطدم التيار أول الأمر بقضية كلامية، هي قضية خلق القرآن. ثم زاد الأمر انحرفاً، إذ غلب ضيق الأفق، والمتاجرة باسم الدين، واتهام الناس بالإلحاد أو الكفر أو الاعتزال، ولعلهم لم يلحدوا، ولم يكفروا، ولم يكونوا من المعتزلة، وإنما آمنوا بما آمن به الخليفة المأمون من حرية الرأي والترفّع عن النفاق.
وكان صاحبنا الكندي من المهتمين. لم يشفع له أنه سليل ملوك، وأنه حفيد رجال كان لهم شرف الجهاد في سبيل الله، وأنه عالم موسوعي لم يكن في عصره ميدان علمي لم يجلّ فيه، ولم يبرز. وكان خصومه من رجال العلم، هم بنو موسى بن شاكر. والناس هم الناس، في كل زمان ومكان.
كان موسى بن شاكر عالماً فارساً وصديقاً لهارون الرشيد. وتذكر كتب التاريخ أنه كان يتغيّب عن بغداد، فيترك أولاده، محمد وأحمد والحسن، في راعية الخليفة، ومع أولاده. فلعلّ غيابه كان غياب ديدبان يسهر على أمن الدولة، يرقب الآتين إلى بغداد والرائحين. وعلى كل حال فقد نشأ أولاده مع المأمون، وصاروا من رجاله. ثم صاروا ينافسونه في اقتناء الكتب وترجمتها. وقد برعوا في هندسة إقليدس والأعمال الميكانيكية. ولكنهم لم يبلغوا علم الكندي اليونانية والسريانية والهندية، ولم يكن لهم ما في مكتبته من الكتب القيّمة. فلما اشتدت نقمة المتوكل على المعتزلة وأصحاب الرأي، اتهم ابنا موسى، محمد والحسن، صاحبنا الكندي بأنه من هؤلاء، فضربه المتوكل، واعتكف الكندي في بيته، وسارع بنو موسى فصادروا كتبه، وافردوها في خزانة خاصة سموها المكتبة الكندية.
ولم يقف أذاهم عند ذلك الحد، فقد كانوا ينفسون على كبير المهندسين، سند بن علي، مكانته عند المتوكل، فعملوا على إبعاده، فنفاه المتوكل إلى دار الإسلام. ثم عهد إلى محمد والحسن، ابني موسى بن شاكر، بحفر قناة الجعفري، وعهدا بدورهما إلى أحمد بن كثير الفرغاني، بتنفيذ الحفر. وكان الفرغاني هذا قد لفت الانتباه إليه إذ أنشأ مقياساً جديداً للنيل. فحضر النهر، ولكنه أخطأ الحساب فجاءت الفوهة أخفض من سائر النهر. وبلغ الخبر المتوكل فاستدعى سند بن علي. وقال له، على مسمع من محمد والحسن: اذهب وانظر فإن صح ما بلغني عن هذين اللذين استنفدا مال الدولة فأصلبهما على حافة النهر. فمضى سند ومعه ابنا موسى. وفي الطريق استلطفاه وطلبا منه العفو عند المقدرة. فاشترط أن يُعاد للكندي ما أُخذ منه. فأعادا للكندي كتبه وأخذا منه وثيقة استلام. فقال لها سند بن علي: في الأشهر الأربعة القادمة سيفيض دجلة والفرات، وتمتلئ قناة الجعفري، فيختفي الخطأ. وبعد ذلك يخلق ما لا تعلمون. وقد بلغني أن حساب المنجّمين يدلُّ على أن المتوكل لن يعيش أكثر من هذه المدة. فإن عاش هلكت وإيّاكما. فهلمَّ، وعلى الله الاتكال. ثم ذهب بهما إلى الخليفة، وطمأنه بأن ليس في الأمر ما يريب. وقد وقع ما توقعوا فتوفي المتوكل قبل أن تنقضي مدة الفيضان، ويمثل الخطأ للعيان.
أعمال الكندي
وتندر الأقدمون على الكندي. فهذا يصمه بالبخل الشديد، وذاك يتهمه بأنه يلجأ في كتابته إلى أسلوب التركيب دون تحليل، ومن ثم فكتابته عسيرة على المبتدئ؛ وذلك يهزأ بأسلوبه الفلسفي المعقد، ويروى أنه قال يوماً لجاريته: إني أرى فرط الاعتياصات من التوقعات، على طالبي المودات، مؤذنات بعدم المعقولات. فقالت الجارية، وهي تنظر إلى لحيته الطويلة: وأنا أرى أن اللحى المسترخيات على صدور أهل الركاكات محتاجات إلى المواسى الحالقات. ومهما قال الأقدمون، ومهما يكن فيها قالوه من حق ومن باطل، فماذا تقول كتب الرجل؟
يعدد له الفهرست وعيون الأنباء حوالي 230 كتاباً ورسالة، موزعة على 17 حقلاً، من فلسفة، ورياضيات، وتنجيم، وطب، وموسيقى، وفيزياء، إلى غير ذلك من هذه الكتب وصل إلينا بضع عشرات نشر منها حوالي ثلاث وثلاثين رسالة أكبرها بحوالي عشرين صفحة، وأكثرها بورقة أو ورقتين، ومنها ما تقع في بضعة أسطر.
ومن المقالات الحديثة التي نشرت عن الكندي مقال ظهر في قاموس السير العلمية لكتابين من غير المختصين بالفلسفة قرّرا مما يلي:
1- ينهل الكندي من أرسطو والأفلاطونية الحديثة إلا أنه في كل حال يبدأ بعرض آراء من تقدمه، بإيجاز، مشيراً إلى ما قصّروا أو أخطاؤا فيه، ثم ينصرف لتصحيح الأخطاء وسدّ الثغرات، إضافة ما يراه هو. إن لديه نزعة قوية إلى أن يأتي بجديد، في كل بحث يتناوله.
2- والجديد الذي استطاع تحقيقه هو انه بين أن تعارض بين الفلسفة والدين، والدين الإسلامي على الأخص.
3- غير أنه لم يستطع أن ينشئ مدرسة جديدة أو مذهباً جديداً. حتى من تتلمذوا عليه لا نعرف منهم سوى أحمد بن محمد بن مروان بن الطيب السرخسي الذي نشط في الترجمة والتأليف في الفلسفة والموسيقى والمنطق، وكان مربياً للمعتضد بالله، ثم نديماً له، فأفشى للمعتضد سرّاً كان سبباً في نقمته عليه، وحبسه ثم قتله.
4- ولقد جهد الكندي في وضع مصطلحات عربية فلسفية تقابل المصطلحات اليونانية، ولكن من جاؤوا بعده لم يتأثروا به، ولم يلتزموا بمصطلحاته.
5- إلا أن تأثير الكندي في الموسيقى والطب كان أكبر، ففي الموسيقى وضع نظاماً أبجدياً لتمييز الألحان والأنغام جرى عليه الغرب من بعد الكندي بقرن. وقد كانت كتبه في الموسيقى الخلفية التي بنى عليها الفارابي دراسته الموسيقية. فالكندي عالم لا فيلسوف، بدليل أن كتبه التي ترجمت إلى اللاتينية قليل بالقياس إلى فلاسفة أُخر من أمثال ابن سينا وابن رشد والفارابي وابن باجة. أما الكندي فقد عرفه الغرب طبيباً صيدلانياً صاحب قانون رياضي في مفعول الأدوية المركّبة استعمله من بعده أبو القاسم الزهراوي. وروجر بيكون، وبرادواردين.
وكتب الكندي التي وصلت إلينا معظمها منشور، مع دراسات موجزة بقلم عبد الهادي أبو ريدة، وعبد الرحمن بدوي، وأحمد فؤاد الأهواني، وكلهم ممن توفر على دراسة الفلسفة الإسلامية وعلاقتها بالفلسفة اليونانية. وفي ضوء ما نجده لدى هؤلاء الباحثين، وفي ضوء ما نطالعه من كتابات الكندي نفسه، نرى أن نضيف ما يلي إلى النقاط الخمس السابقة كيما تكتمل الصورة عن الكندي وإنتاجه.
6- كان الكندي فيلسوفاً ذا عقلية رياضية فذة. ولأنه جاء مبكراً، فقد جابه في الفلسفة ما جابه الخوارزمي في الحساب والجبر، وسيبويه والكسائي في قواعد اللغة، والخليل بن أحمد في العروض: أراد أن يعرض الفلسفة بلغة لم تكن من قبل لغة علم، فكان لا بد من وضع مصطلحات جديدة، كما صنع غيره من الرواد في حقولهم المختلفة.
ولكن الرواد الآخرين اختاروا لمصطلحاتهم ألفظاً عربية مألوفة، وأكسبوها معاني جديدة، كالمتقارب في العروض، والمضارع في قواعد اللغة، والشيء والمال في الجبر.
أما الكندي فقد صاغ لمصطلحاته ألفاظاً جديدة لم تعرف من قبله، وبعضها لم يستعمله غيره. فمن كلمة "هو"، أو "ما هو؟" صاغ كلمة "الهُويّة"، واشتق منها ألفاظاً أخرى مثل تهوّى، والمتهوّي.
وقد استعمل كلمة "ليس" بمعنى العدم، أو اللاموجود، وجعل ضدها كلمة جديدة هي "ليس".
ثم هو بعقليته العلمية أدرك قيمة الدقة في العبارة، فوضع جدولاً في مصطلحات وضع لها حدوداً موجزاً، ثم راح يكتب مرعياً الدقة اللفظية، في إطار تلك الحدود والرسوم التي وضعها. فجعل هذا عباراته، كمصطلحاته، غير مألوفة، لا سيما للمترجمين إلى اللاتينية. ولذا قل ما عرف من كتبه الفلسفية في الغرب.
7- يبدو أن الكندي أراد أن يقيم علم الفلسفة على أساس علمي رصين، كالذي قام عليه علم الهندسة، ولذا عمد إلى بدء كل قضية يطرحها بمقدمات يبرهن عليها بطريقة الخلفُ، أي أنه يفترض أن الأمر على غير ما فرض، فيستنتج من ذلك نتيجة تؤدي إلى خلاف معقول. وهو في هذا يحذو حذو إقليدس. غير أنه أتى في هذا الأمر ما سبق به زمانه بستة قرون على الأقل. فهو أولاً استعمل الرموز الحرفية في مثل قوله: إذا كان "م" بعضاً من "ب". ولو استعمل الخوارزمي الحروف في الجبر، بدل "شيء" و "مال" و"كعب"، وتقدم علم الجبر قروناً إلى الأمام.
ثم إن الكندي، في ذلك الزمان البعيد، صرف همه إلى المتناهي واللامتناهي حتى تبين له أن القوانين الحسابي التي تصح على المقادير المحدودة المتناهية لا تصح على اللامتناهيات.
8- وأخيراً: صحيح أن الكندي لم يكن له، أو لم يكوِّن، مدرسةً فلسفية. ولكن لم يكن ذلك تقصيراً منه ذاته، وإنما كان بحكمي العقيدة. فمادام الحصن الحصين الذي يأوي إليه الفيلسوف المسلم هو أن يثبت ألا ّ تعارض بين الفلسفة وبين الدين، فلا بد أن يقوم من الفقهاء من يقول له: وما الجديد في الفلسفة إذاً مما لا يكشفه لك الدين؟ وإذا لم يكن ثمة جديد، فما هذه الأقاويل التي تتشاغلون بها؟ هذا ما قامت عليه الخلافات من قبل الكندي ومن بعده، بين الفقهاء والمعتزلة، وهذا ما جعل الإمام الغزالي يضع كتاب "تهافت الفلاسفة"، ودفع ابن رشد لأن كتابه: "تهافت التهافت". لعلّ الكندي لم يكن معتزلياً، وإن يكن قد استعمل مصطلحات درج عليها المعتزلة. إلا أن مجرد خوضه في ميدان الفلسفة كان - ولا يزال - مما هو في نظر الفقهاء "اعتزال". قليلون هم الذين يدركون أن كمال الإيمان أن يدرك المرء الحقيقة بنفسه ويقينه الناشئ عن محض تفكيره.
من أقوال الكندي
هذه مختارات من كتابات الكندي منقولة بتصرف يسير من كتابه إلى المعتصم به في الفلسفة الأولى
· والمطالب العلمية أربعة: هل، وما، وأي، ولِمَ.
أما "هل" فإنها باحثة عن الإنية فقط (أي الخبر كالذي يكون في صيغة إن كذا قد حصل)
وكل إنية لها جنس فإن "ما" تبحث عن جنسها. و"ما" و"أي" جميعاً تبحثان عن نوعها. و"لم" تبحث عن علتها التمامية (أي المطلقة).
· إنه تبين عندنا، وعند المبرزين من المتفلسفين قبلنا: أنه لم يقل الحق، بما يستأهل الحق، أحد بجهده، ولا أحاطوا به جميعهم. بل كل واحد منهم نال منه شيئاً يسيراً. فاذا جمع يسير ما نال كل واحد منهم، اجتمع من ذلك شيء له قدر جليل.
· فينبغي أن يعظم شكرنا للآتين بيسير الحق، فضلاً عمن أتى بكثيره، إذ أشركونا في ثمار فكرهم. فإنهم لو لم يكونوا، لم يجتمع لنا، مع شدة البحث، في مددنا كلها، هذه الأوائل التي بها توصلنا إلى الأواخر.
· وينبغي ألاّ تستحي من استحسان الحق، واقتنائه، من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية. فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق.
· ولا ينبغي بخس الحق، ولا تصغير قائله، فلا أحد يُبخس بالحق، بل كل يتشرف به.
ومن أقواله
· وقد يُظن أن "الكل" لا فرق بينه وبين "الجميع". (وهناك فرق). فنقول كل الماء، وكل البدن، وجميع البدن، ولا نقول جميع الماء، لأنه ليس جمعاً لأشياء مختلفة، كل واحد منها قائم بذاته. وكذلك بين الجزء والبعض فرق: لأن الجزء يقال على ما عدَّ الكل فقسمه بأقدار متساوية؛ والبعض يقال على ما لم يعدَّ الكل، فقسمه بأقدار ليست متساوية.
حدود الأشياء ورسومها
يمتدح الدكتور عبد الهادي أبو ريدة المصطلحات التي وصفها الكندي لأنها تطابق في معانيها المصطلحات اليونانية. وهذه نماذج من هذه المصطلحات، وتعريفاتها، كما وردت في رسالته "في حدود الأشياء ورسومها":
الحد هو التعريف العام الفاصل للشيء عن غيره، مثل قولنا: الانسان حيوان ناطق.
الرسم: هو التعريف الشيء بما يميزه، مثل قولنا: الإنسان حيوان ناطق
العقل: جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها.
الإبداع: إظهار الشيء عن ليس، (أي الإتيان به من عدم).
الصورة: الشيء الذي [صار] به الشيء هو ما هو.
الفعل: تأثير في موضوع قابل للتأثير (كعقل القوة في تحريك جسم ساكن).
العمل: فعل بفكر. (لاحظ تمييزه بين الفعل والعمل).
الاختيار: إرادة قد تتقدمها روية مع التمييز.
الزمان: مدة تعدها الحركة، غير ثابتة الاجزاء.
المكان: نهايات الجسم. ويقال هو التقاء أفق المحيط وأفق المحاط به.
الايقاع: فعل فصل زمان الصوت بفواصل متناسبة متشابهة.
العلم: وجدان الأشياء بحقائقها.
الصدق: القول الموجب ما هو، والسالب ما ليس هو (من هنا جاءت لفظتا الموجب والسالب في الرياضيات. والصدق هو أيضاً إما إثبات شيء ليس، وإما نفي شيء أيس.
الوهم: وقوف شيء في النفس بين الإيجاب والسلب، لا يميل إلى واحد منهما.
الأزلي: الذي لم يكن ليس، وليس بمحتاج في قوامه إلى غيره.
الوقت: نهاية الزمن المفروض للعمل. (لاحظ الفرق بين الوقت والزمان. فالزمان مدة. والوقت نهاية مدة).
الجزء:لما فيه الكل. والبعض: لما فيه الجميع. (والإيجاز هنا جعل التعريفين غامضان، وهما تعريفان رياضيان، فالجزء يكون لما يقسم أجزاء متساوية، فالعشرة مثلاً أجزاؤها 1، 2، 5، وهو بلغة اليوم القواسم. أما 3، 4، 6، 7، 8، 9، فكل منها بعض العشرة، وليس جزءاً منها).
المماسَّة: توالي جسمين ليس بينهما من طبيعتهما، ولا من طبيعة غيرهما، إلا ما لا يدركه الحس، وأيضاً هو تناهي نهايات الجسمين إلى خط مشترك بينهما.
الصديق: إنسان هو أنت إلا أنه غيرك.
الاتصال: هو اتحاد النهايات.
الملازقة: إمساك نهايات الجسمين جسماً بينهما.
عن "آفاق علمية"