تجدد النقاش مؤخرا حول مدى استعداد العالم العربي لانطلاقة علمية بعد صدور تقرير منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) عن العلوم في العالم لعام 2010. ومع ان التقرير لم يفاجىء احدا لكنه أكد حقيقة معروفة مفادها ان انفاق دول العالم العربي في مجال البحث العلمي أقل كثيرا من معدلات الانفاق في بقية دول العالم، وان الانفاق على مشاريع الدفاع وصفقاته يتصاعد بشكل مضطرد ولا يوجد سقف له. ومع ان المواطن العربي يعرف شيئا عن هذه الحقائق ولكنها عندما تعرض مقارنة بما يجري في بقية انحاء العالم تصبح أكثر إيلاما وإزعاجا. واذا اضيف لذلك ان هذه الدول تمتلك قدرات مالية عملاقة وان سبب انخفاض الانفاق على الجانب العلمي ليس مرتبطا بالاوضاع الاقتصادية خصوصا في الجانب الشرقي من العالم العربي، اتضح ان المشكلة مركبة، وليست ناجمة عن ضعف الامكانات الاقتصادية. كما ان هذه الحقيقة تستبطن حقيقة اخرى لا تقل مرارة، وهي ان استمرارها يكرس ظاهرة الاستهلاك المتنامية في المجتمعات العربية، الامر الذي لا يمكن ان يؤدي يوما الى النهوض والتطور والتنمية الذاتية. ومع ان التقرير لم يشر باصابع الاتهام الى جهة سياسية او مجتمعية دون سواها، فمن المؤكد ان المشكلة لا يمكن استيعابها او حلها بحصر التقصير بالانظمة والحكومات في مجال التخطيط العلمي. فإذا كان هناك قصور ناجم عن تقاعس النظام السياسي، فإن غياب الرقابة والمحاسبة من الجانب الشعبي لا يوفر الضغوط المطلوبة لاعادة توجيه السياسات الرسمية باتجاه الاهتمام بالبحث العلمي. انها مشكلة مركبة، تبدو سياسية في ظاهرها، ولكنها بنيوية في حقيقتها. ومناقشة هذه الظاهرة لا تختلف كثيرا عن مناقشة المسألة الديمقراطية، وهل ان غياب النظام السياسي القائم على اسس من الشراكة والتعددية ناجم عن طبيعة النظام السياسي الحاكم ام مرتبط كذلك بغياب الارادة المجتمعية. فالمجتمعات التي لا تسعى للتغيير ولا تضحي في سبيله لا تحقق تقدما سياسيا، فيصبح عزوفها عن العمل الفاعل عاملا آخر يساهم في تكريس الواقع القائم، ويشجع النظام على مواصلة سياساته بدون الخشية من ردود فعل مضادة من الطرف الآخر.
التقرير المذكور يطرح حقائق مذهلة، تارة بالارقام المطلقة واخرى بالنسب المئوية المدهشة. فعلى سبيل المثال، قال التقرير ان متوسط الانفاق على البحث والتطوير في الدول العربية الافريقية تراوح بين 0.3 في المئة و0.4 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي عام 2002. وبلغ المتوسط 0.1 في المائة في الدول العربية في آسيا في العام نفسه، في حين ثبت المتوسط العالمي عند 1.7 في المائة من 2002 الى 2007. بينما تراوح المتوسط في 'اسرائيل' بين 4.6 في المئة و4.8 في المئة عام 2006. وفي مقابل ذلك ذكر معهد ستوكهولم لابحاث السلام ان حجم انفاق الدول العربية على صفقات السلاح في عام 2009 بلغ 94 مليار دولار. ويتوقع صعود الانفاق العسكري هذا العام الى اكثر من 100 مليار دولار. انها ارقام خيالية لا نظير لها في العالم. ألا يعكس هذا التدافع لتوقيع صفقات السلاح اوضاعا متوترة ليس لها وجود في الواقع؟ فحتى الدول التي تخوض الحروب في العراق وافغانستان لا تنفق مثل هذه المبالغ على التسلح. وهنا يجدر طرح التساؤل حول مدى وجود جهات تقرأ الواقع من منظور استراتيجي وتقترح الخطط على اساس ما تستنتجه. وفي عالم اصبح فيه العلم والتكنولوجيا وسائل مهمة لتحقيق السيادة الوطنية، فان السلاح يتحول الى لعب غير مجدية لمن يملكها، خصوصا مع غياب اجواء الحرب الحقيقية من جهة وغياب العقيدة العسكرية المدروسة من جهة اخرى. فالحروب التي حدثت في العقود الاخيرة انما كان اغلبها مفروضا من الخارج. وبرغم الخلافات بين الدول الاقليمية فإنها لا ترغب في المواجهة العسكرية، وبالتالي يقتضي المنطق ان لا تتعب نفسها في تكديس السلاح الذي لا يلبث ان يفقد صلاحيته للاستخدام، خصوصا في عصر السباق التكنولوجي الذي لا يتوقف. وبدلا من انفاق هذه الاموال الهائلة على التسلح أليس بالامكان استثمارها (او استثمار جزء صغير منها على الاقل) في مجال البحث العلمي والتطور التكنولوجي؟ ألا تستطيع الدول العربية المشرقية التي تملك امكانات مادية هائلة تمويل مشاريع بحثية في عواصمها او التعاون مع الدول الاسلامية الكبرى مثل تركيا وايران واندونيسيا ومصر وباكستان لانشاء مشاريع بحثية مشتركة في مجالات حيوية مثل استغلال الطاقة الشمسية والطاقة المائية والصناعات الثقيلة والتكنولوجيا الدقيقة (نانو تكنولوجي)؟ وهنا لا بد من الاشارة الى ان بعض هذه البلدان الاسلامية الكبرى لديها مشاريع بحثية في هذه المجالات، وقد بدأت مشاريع تصنيع واسعة، ولكن امكاناتها المالية لا تؤهلها لتوسيع مجالات البحث بمعدلات اكبر.
مع ذلك ستظل مسألة التطور العلمي مثيرة للجدل، وسوف تطرح بين الحين والآخر خصوصا من قبل المتخصصين من العلماء الذين يشعرون بقدرتهم على العطاء عندما يعملون في مؤسسات بحثية غربية، ولكنهم لا يجدون فرصا مماثلة عندما يبحثون عنها في بلدانهم الأم. ويواجه التطور العلمي في الدول العربية عددا من المعوقات منها ما يلي:
اولا غياب العقلية الاستراتيجية لدى النخب الحاكمة التي ربطت وجودها ليس بخيارات شعوبها وارادتها، بل بدعم القوى الغربية لوجودها على اساس مقولات 'الصداقة' و 'التحالف' و 'مواجهة التحديات المشتركة'. فالتوجه العلمي يجب ان يكون هدفا استراتيجيا، منفصلا عن مصالح النخب الحاكمة ومرتبطا بمصالح البلدان والشعوب، وموجها نحو احداث قفزات نوعية في انماط حياتها، وتحريك كوامن القدرات العقلية لدى اجيالها الناشئة. ويؤكد تقرير اليونسكو ذلك بالاشارة الى 'افتقار عدد كبير من الدول العربية حتى الآن الى سياسات وطنية خاصة بالعلوم والتكنولوجيا والابتكار يجبرالقطاع الخاص في الكثير من الاحيان على الاضطلاع بأنشطته في ظل فراغ على مستوى السياسات وهي ظروف لا تعتبر مواتية للابتكار'.
ثانيها: غياب المناخ العلمي في عالمنا، لاسباب اجتماعية تعوق الانقطاع الحقيقي للبحث وسبر اغوار العلم بعيدا عن منغصات اجتماعية او ثقافية موروثة تحاصر الفكر وتعرقل الانطلاق في آفاق العلم الرحبة بعيدا عن التنميط او التثبيط او التكفير، او سياسية تمنع انطلاق الفكر الحر وتخشى ان يؤدي العلم الى كسر الحواجز التي تصادر العقل وتمنع انطلاقه في فضاءات الحرية والتدبر من جهة، وفي عالم التجريب والفحص من جهة ثانية.
ثالثها: الحصار المفروض من'الخارج على انتشار العلم المؤسس على البحث والتجربة انطلاقا من قاعدة 'انسانية العلم' والتخلي عن 'أدلجة' التطور العلمي بحصره ضمن مناخات محدودة، منفصلة عن ثقافة الآخر 'غير المتحضر'. وتكفي الاشارة الى الحصار المفروض على طلاب العلم العرب والمسلمين بمنعهم من الالتحاق ببعض التخصصات في الجامعات الغربية لمنع نقل العلوم الى بلدانهم، وذلك للحيلولة دون تقوية تلك البلدان.
رابعها: جنوح العلماء والباحثين للابتعاد عن 'الخيارات الصعبة' وعدم الاستعداد لتحمل تبعات المغامرة عندما يتحركون ضمن اطر خارج المسموح به من قبل الدول الغربية. وما حدث للعالم النووي الباكستاني، عبد القدير خان، من حصار ادى الى اعتقاله وحصاره في منزله، بسبب ما حققه من نجاحات في مجال الابحاث النووية، اصبح يمثل رادعا لغيره من العلماء الذين يسعون لتوسيع دوائر العلم والبحث في البلدان الاسلامية، وكسر الحواجز الجغرافية والثقافية والسياسية التي تسعى لتسييس العلم وأدلجته بهدف منعه من الوصول الى 'أيد غير أمينة' او بمعنى آخر، 'غير مرغوب فيها'.
خامسها: الاستهداف المتواصل للعلماء والموهوبين من العرب والمسلمين. وقد كتبت مقالات كثيرة حول استهداف العلماء بالتصفية الجسدية المباشرة خصوصا المصريين والعراقيين والاتراك على مدى نصف القرن الماضي. ولا يزال الاستهداف متواصلا خصوصا في العراق الذي يمتلك مقومات النهوض العلمي، فيما لو استقر امنيا وسياسيا. كما ان الحصار المفروض على ايران بذريعة مشروعها النووي يهدف، هو الآخر، لمحاصرة قدرة الجمهورية الاسلامية على تحقيق تقدم علمي يكرس نزعتها نحو الاستقلال عن الهيمنة الغربية، والاعتماد على الذات في مجالات التصنيع العلمي والعسكري.
ولا بد من الاعتراف بحقيقة برزت في السنوات الاخيرة، وهي توجه بعض الدول الخليجية نحو التطور العلمي بزياردة نسبة الاستثمار من الدخل القومي في ذلك المجال. وقد قررت حكومة قطر تخصيص 2.8 بالمائة لذلك، كما عمدت السعودية والامارات لتطوير مستوى جامعاتهما لتصبح منافسة للجامعات العالمية الشهيرة. وتجدر الاشارة الى عدم وجود اية جامعة عربية بين الجامعات المائة التي تعتبر الافضل في العالم. الامر المؤكد، من خلال قراءة التاريخ، ان التطور العلمي يوفر حماية طبيعية للفرد او الأمة، فالحضارات لا تبنى الا بالتطور العلمي والاطلاع على عطاءات الامم الاخرى، ولذلك كان للترجمة مثلا دور كبير في تاريخ الحضارة الاسلامية التي قامت على اسس ثابتة من العلم والبحث العلمي على كافة الصعد المعرفية: الرياضيات والفلسفة والطب والكيمياء والعلوم الطبيعية الاخرى. وعندما نهضت اوروبا من سباتها توجهت الى العلم وبدأت ما سمي 'الثورة الصناعية' ورفعت القيود التي فرضتها الكنيسة على العلم والعلماء في العصور الوسطى. وفي الوقت الحاضر تمثل الصين والهند مثالين عمليين لقدرة الأمم على الصعود، مهما كانت متخلفة وفقيرة. بينما لا تزال دولنا النفطية التي تتمتع بمدخولات عملاقة تعاني من التبعية العلمية والتخلف. هذه البلدان لديها جامعات توسعت في العقود الاربعة الاخيرة، وتطورت مناهجها، ولكنها لم تتطور كثيرا في مجال البحث العلمي نظرا لغياب مشروع مركزي لنهضة علمية مرموقة. تمتلك هذه البلدان مستشفيات مزودة بأحدث الاجهزة الطبية التي صنعتها التكنولوجيا الغربية الحديثة، ولكنها لا تزال عاجزة عن علاج المرضى، ولا تزال عواصم المدن الغربية تستقبل قوافل المرضى من الشرق الاوسط بسبب عجز مستشفيات بلدانهم عن محاكاة المؤسسات الطبية الغربية سواء في التشخيص ام العلاج ام الدواء ام العناية اللازمة في فترة النقاهة.
ان تصاعد ظاهرة المجتمع الاستهلاكي في هذه الدول اصبح ظاهرة مقلقة جدا لانها تحول دون توجه الاجيال الجديدة نحو العلم والبحث. فما ان يكمل الشاب دراسته الجامعية حتى يبادر للعمل والزواج وينهي بذلك صلته باختصاصه العلمي. ومع غياب سياسات التشجيع الرسمي لذوي المواهب العلمية، لم يعد الانخراط في مؤسسات البحث العلمي، ان وجدت، امرا مستساغا نظرا لما ينطوي عليه من السيطرة على الاستهلاك وانماطه.
جاء تقرير اليونسكو الاخير جرس انذار لمن يعنيهم امر هذه الأمة من ساسة وعلماء بضرورة اليقظة في هذا العصر الذي اتسم بسرعة القرار والحسم والتخطيط والانطلاق. مع ذلك تبقى الاشكالية الازلية في هذه المنطقة من العالم: أيهما اولا: الدجاجة ام البيضة؟ فالنظام السياسي العربي، بطبيعته وسماته، ليس صديقا للعلم والعلماء، ولا يحمل مشروعا حضاريا لانهاض الامة علميا واخلاقيا وسياسيا. وليس علماء الدين بأفضل حالا في استيعاب مستلزمات النهضة والحضارة والتقدم. وبالتالي فلم يبق سوى الامكانات العلمية المتوفرة في اغلب البلدان العربية والاسلامية، التي بالامكان تحريكها ووضعها على طريق البحث العلمي. وما لم تحدث 'صحوة ضمير' لدى اولئك الباحثين والعلماء تدفعهم للضغط باتجاه 'مأسسة' النهضة العلمية فستظل المحاولات متواضعة ومحاصرة بعقلية غير متحمسة للعلم والعلماء وتجاوز الأطر المفروضة من جهات تشعر ان التطور العلمي سوف يحاصرها ويحاسبها على التلكؤ في التطوير.
وقد تولى فريق من الخبراء الدوليين اعداد تقرير اليونسكو عن العلوم الذي يقدم لمحة عامة عن الاتجاهات العالمية في مجال العلوم والتكنولوجيا استنادا الى مجموعة واسعة من المؤشرات الكمية والنوعية. وقال التقرير انه في عام 2006 ساهمت الدول العربية بما لا يزيد على 0.1 بالمئة من العدد الاجمالي لبراءات الاختراع المسجلة في المكتب الامريكي لبراءات الاختراع والعلامات التجارية وفي المكتبين الاوروبي والياباني لبراءات الاختراع، وهي نسبة متواضعة جدا. وبرغم ذلك يقول التقرير ان هناك مؤشرات تدعو الى التفاؤل من بينها انشاء عدد من الصناديق الوطنية المعنية بالعلوم والتكنولوجيا والابتكار في السنوات القليلة الماضية ومنها الصندوق الاوروبي المصري للابتكار الذي انطلق عام 2008 وصندوقان وطنيان هما مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم في الامارات العربية المتحدة (2007) وصندوق الشرق الاوسط للعلوم في الاردن (2009). وهناك استراتيجية للعلوم والتكنولوجيا تشمل كل بلدان المنطقة العربية سوف تقدم لمؤتمر القمة العربية عام 2011 على امل اعتمادها رسميا. ويتوقع ان تقترح هذه الاستراتيجية مبادرات وطنية وعربية على حد سواء في حوالى 14 مجالا ذات أولوية بما في ذلك المياه والغذاء والزراعة والطاقة. مع ذلك فمن الضروري التأكيد على ان النهضة العلمية لن تحدث على اساس هذه الاستراتيجية فحسب، بل المطلوب إشراك المعنيين بالبحث العلمي والتكنولوجي في السجال، ودفعهم لبذل الجهود لتقديم نظرات بعيدة المدى لما يمكن عمله لبدء دوران عجلات النهضة العلمية التي طال انتظارها واصبح وجود الأمة مرتبطا بشكل وثيق بمدى جديتها وشمولها ونجاحها. وبدون ذلك فالمجال للتطور والتقدم امام العرب والمسلمين سيظل محدودا ومتواضعا، وغير ذي شأن.
د. سعيد الشهابي، كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
عن "القدس العربي" 23 11 2010 (قبل عهد الثورات العربية)