تقديم
لماذا يتكىء بعض شيوخ الدين على العلوم الطبيعية، و"التمسّح" بالعلم لإثبات القرآن الكريم، وهو ما يفترض أن يكون نصّاً مطلقاً يحوي مسلمات أزلية لا يأتيها الباطل والنظر في أي تطوّر "علمي" جديد ومحاولة "إثبات" ما جاء في القرآن الكريم بواسطته.
إن من درس العلم أو يبحث فيه يعرف أن العلم دائم التطور والتغيّر وتأتي حقائق أو نظريات جديدة فتنسف ما سبقها باستمرار. أي أن العلم ليس قضايا ثابتة مطلقة الصحة، بل يمكن القول أنه لا يؤتمن جانبه. والدين إيمان ولا يحتاج للعلم وأدواته، من منطق وعقل وأدلّة وإثبات وتجارب وما إلى ذلك.
ولعل أشهر شيوخ الدين هؤلاء في السنوات الأخيرة هو زغلول النجار، ويناقشه هنا الباحث مروان علاّن في سلسلة مقالات جديدة كُتبت خصيصاً لموقع "لِمَ لا؟"
--- --- ---
حوار العلم والدين... مع زغلول النجار
مروان علاّن (*)
(الحلقة الأولى)
لم يكن لدى العرب قبل الظاهرة الإسلامية القرآنية من ابتكار إبداعي خاص بهم سوى ما قدّموه في مجال اللغة.. شعراً ونثراً.. وكان نصيبهم من العلم التجريبيّ شذرات مما تتداوله حضارات ذلك الزمن، وهي بمجملها لا تتعدى العلاقة الانتفاعية من ظواهر كونية تساعدهم للاستدلال على مساراتهم في تنقلاتهم، كما هو الحال في علاقتهم بالنجوم والأفلاك، بصفتهم محطة تجارية مركزية تتوسط طرق القوافل التجارية الواصلة بين المنتجين في الشرق والجنوب، والمستهلكين في الغرب والشمال. ولم يختلف الأمر بينهم أياً كانت معتقداتهم سواء كانوا وثنيين أم مسيحيين أم يهوداً.
وقد كانت للقبائل العربية لهجاتها المتعددة، ولكل واحد منهم علاقته بلهجته، يعبّر بها عن مكنون ذاته ودواخله ويعتمدها اعتماداً كليّاً في أدبه، شعراً ونثراً وخطاباً، وقد تمكّن منها أيّما تمكُّن واستوعبها بتفاصيلها أيما استيعاب.
جاء القرآن للعرب بلهجة من تلكم اللهجات، واعتمدت مذ ذاك لتصبح لاحقاً اللغة العربية الفصحى، رغم أن وحدات النصّ القرآني قُرئت لدى الكثيرين بلهجات أخرى ما لبثت أن تراجعت أمام رغبة النظام السياسي في الإبقاء على لغة عُرفت فيما بعد بأنها لغة قريش. وقد جاءت قراءة النص القرآني بلهجات مختلفة مع ما في هذه اللهجات من اختلافات لفظية تحمل في طيّاتها اختلافاً في المعاني والدلالات كما أن فيها اختلافاً في عدد الكلمات وتعداد الحروف. وإذا أضفنا إلى ذلك أن صورة الحرف العربي وشكله وتركيبة حروفه لم تكن في تلك الفترة قد اكتملت وتبلورت، ولم يكن قد أخذ موقعه وترتيبه وتنقيطه بطريقة تضمن عدم اللبس بينه وبين مشابهاته من الأحرف الأخرى، فإن قراءة النص القرآني لم تكن كما هي قراءته بعد استقرار الحرف واستكمال تنقيطه ورسم صورته النهائية بعد كل تلك القرون المتتابعة عليه، وبالتالي فالبحث في النص ومعانيه في الوقت الحاضر يعتمد على الصيغة الحالية المعتمدة لدى الأمة الإسلامية للحرف ووضعيته في الكلمة ووضعية النقاط عليه وتشكيله بالحركات الصغيرة، وهي الصيغة التي لم تكن في حسبان الأجيال الأولى وشارحي النص ومفسريه الأوائل. واللغة العربية ذات حساسية عالية تجاه النقط والحركات الصغيرة التي توضع لمعرفة صيغة التلفظ بالحرف، رفعاً أو نصباً أو جرّاً أو جزماً...الخ وقد ينعكس المعنى ويختلف كلياً إذا تغيّر وضع نقطة أو وضع حركة صغيرة على حرف كقول: غُلبت الرم(بضم الغين) في الآية إذ يتضمن معناها هنا هزيمة الروم، بينما إذا قرئت: غَلبت الروم (بفتح الغين) فإنها تشير إلى انتصارهم، وهو معنى مناقض، وبالتالي يصبح هناك اختلاف تاريخي لحدث مهمّ تمّ ذكره نظراً لأهميته. وليس هنا مجال الوقوف أمام تفاصيل هذه الاختلافات، كما لا مجال للحديث عن كيفيات وصول القرآن وطرق تداوله وكتابته وحفظه، ولكن تمّ الإجماع لدى الأمة على أنه من عند الله وأن الله تكفّل بحفظه من أي تغيير أو تحريف أو تلاعب أو عبث منذ بداية ظهوره حتى نهاية البشرية، وانطلاقاً من هذه المقولة أخذ النص القرآني طابع القداسة المطلقة، فاعتُبرت وحداته النّصّيّة كلها وكلماته كلها وحروفه كلها مصدراً رئيسياً لكل فروع المعرفة الانسانية وغير الانسانية كذلك،الظاهر منها والغيبي، كما تمّ الاتفاق على أن إيمان المؤمن لا يكتمل، بل لا يُقبل منه إذا لم يؤمن بأن كل ما في القرآن هو الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا من أي من الجهات الست المحيطة بالوجود، وأنه ليس هناك ما يشبهه لا من قبل ولا من بعد مهما كان مصدره، وبالتالي يصبح الإتيان بمثله مستحيلاً، ومن هنا جاءت فكرة الإعجاز.
فما هو الإعجاز؟
الإعجاز من العجْز أي عدم القدرة، وتتلخص فكرته في أن لا أحد في الوجود من مختلف الكائنات المحسوسة والغيبية يمكنه الاتيان بمثله أو بشيء شبيه بجزء منه. وقد اختلف شارحو النص ومفسروه في سرّ هذا العجز الذي يصيب الكائنات عن الإتيان بمثله، بعد نصّ التحدي: (قل لو اجتمعت الانس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)، كما ورد فيه. ومن هنا ظهرت دراسات وبحوث الإعجاز في المكتبة القرآنية الإسلامية، فمنهم من اعتبر سرّ الإعجاز ناجماً عما فيه من معلومات علمية لم يكن أحد من السابقين يعرفها، ومعظم أصحاب هذا الرأي من شارحي النصّ المعاصرين الذين دهمتهم الاكتشافات العلمية وشعروا أنهم أمام تحدّ حضاري كبير كفيل بإلقاء الإسلام ونصّه القرآني في موقع تاريخي منتهي الصلاحية، فبدأوا التنقيب والنبش في الوحدات القرآنية لاكتشاف لمحات التشابه والموافقة بين النصّ والاكتشافات، سواء الحقائق المثبتة أو النظريات التي ما تزال تحت الإثبات. وسبب هذا الاندفاع هو إيمانهم بأن القرآن يتضمّن كل شي، انطلاقاً من قوله: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)، وهي في نظرهم تعني أي شيء في الوجود من صنوف المعرفة المكتشفة وغير المكتشفة، سواء كانت علمية أو اقتصادية أو جغرافية أو فيزيائية، بل وحتى تاريخية وسياسية وقانونية، وتروى عنهم في هذا المجال طرائف عديدة. وهكذا يصبح القرآن لدى قارئيهم بمثابة موسوعة (انسكلوبيديا) شاملة كاملة لا يحتاج المؤمن لغيرها، كما لا يحتاج إلا لإعمال العقل فيها ليكتشف أسرارها بسهولة، [ولا أدري لمَ لم يكتشف السابقون تلك الأسرار العميمة؟] ويأتي في مقدمة هؤلاء الشارحين الشيخ زغلول النجار ود. مصطفى محمود بشكل رئيسي، يتبعهم بعض العلماء الأقل أهمية ونشاطاً.
ومن الشرّاح من اعتبر سرّ الإعجاز بيانياً لغوياً وهم بعض علماء اللغة والأدب من السابقين وبعض المعاصرين، فتناولوا القيمة البيانية والصور اللغوية الفنية، وداروا حولها تفسيراً وشرحاً وتبياناً لمواطن (الإعجاز) فيها، ويأتي في مقدمة هؤلاء سيد قطب في تفسير (في ظلال القرآن)، والشيخ شعراوي في تفسيره وغيرهم، ويبدو أنه غاب عنهم أن سرّ الإعجاز إذا انكشف لم يعُد إعجازاً، حيث يمكن لمن كشف سرّه أن يأتي بمثله..
ومن الشرّاح من اعتبر الإعجاز مرتبطاً بالإنباء بالغيب، ماضياً وحاضراً، فيما يتعلق بحوادث التاريخ واعتبروا أن كشف القرآن عما حدث مما لم يكن يعرفه السابقون، وتنبؤاته عمّا سيحدث لاحقاً إنما هو سرّ الإعجاز..
وحدهم المعتزلة لم تعنهم هذه الاتجاهات في موضوعة الإعجاز، وقاموا بالردّ على القائلين بكل صنوف الإعجاز معتبرين أن سرّ الإعجاز إنما هو لأن الله (صرف) القلوب والعقول عن الإتيان بمثله، فقالوا بـ (الصرفة) وان ما في القرآن ليس معجزاً بأي شكل، معتمدين العقل في تحليل هذه المعاني في الوحدات النصّيّة القرآنية.
وهذه الاختلافات الجوهرية تبيّن أن الوقوف عند النصّ والدوران حوله شرحاً ودراسة تحت مظلة القداسة يدفع بنتائج البحوث والدراسات إلى محطة واحدة مهما اختلفت توجهات الباحثين والشارحين،وهي محطة الوصول إلى النتائج المسبقة الجاهزة للبحث قبل البدء بالبحث، ما يعنى أنه الانطلاق من النتائج للوصول إليها، وتصبح أهداف الدراسات الرئيسية هي إثبات ما جاء في النص من صواب الأفكار والمعتقدات، وبالتالي إثبات الإعجاز الذي يقرر ألوهية النصّ من حيث مصدره الأول، وهذه تقتضي صوابيته المطلقة وتنزّهه عن الخطأ والنقص والحذف والتحريف والعبث.
ولا مجال هنا لمناقشة هذا المفهوم وتفكيكه، ولكننا سنتناول جانباً واحداً من جوانب الإعجاز التي يدور حولها لغط كبير بين مؤيد ومعارض داخل دائرة الفهم الدينية، لنرى كيف تناولها الشارحون والمفسّرون وما هي منطلقاتهم ومنهجيتهم والقواعد التي استندوا إليها، لا لكي نفنّد تلك الآراء ونلغي مفهوم الإعجاز تاركين هذا الأمر لذكاء القارئ ورؤيته، وإنما لنعرض بطريقتنا هذه المسألة.
وسيكون ميداننا الأثير هنا كتابات الشيخ زغلول النجار صاحب اليد الطولى جداً، في هذا المضمار، بل واليد الأطول جداً في الكتابة لإثبات مقولات الإعجاز العلمي القرآني.
منهجية زغلول النجار في قراءة النص:
وهي هنا ليست منهجية زغلول نفسه بصفته القارئ للنص، إنما هي طريقته التي لا بدّ أن تكون في وعي القارئ قبل البدء في القراءة، أي أن على القارئ أن يؤمن بها أولاً ليصبح ما يقوله الشيخ مفهوماً، وهي قواعد محاصِرة، بكسر الصاد، لوعي القارئ وتوجهاته الفكرية وتقوم بعمليه إلغاء لقدراته النقدية وتفكيره الحرّ، بل تضعه على مسار محدد لا يمكنه بعدها أن يحيد عنه. إنها شروط لصناعة قارئ محدد المعالم، وليست لقارئ محايد أو مفكر بحرية.
فالقارئ الذي هو حسب قراءة الشيخ، حسبما ورد في كتابه: الحيوان في القرآن: «يحسن فهم القرآن» و «يفهم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ»و«يراعي السياق القرآني للآيات» و«لا يتكلف أو يحاول ليّ أعناق الآيات و «لا يخوض في القضايا الغيبية» و «يوظف الحقائق العلمية القاطعة للاستشهاد على الإعجاز القرآني» و «ينطلق من الآية للوصول إلى الحقيقة»، و «يكون على يقين من صحّة كل ما جاء في القرآن المحفوظ بكلمة الله» ولديه «إخلاص النية في ذلك»، هذا القارئ داخل هذه الغابة المتشابكة من القواعد والاشتراطات لن يجد في وعيه أي مساحة بعد ذلك للتفكير الناقد أو إعمال العقل في أي شيء.. لقد تسلّمه الشيخ جاهزاً.. مغمض العينين تابعاً يهتف مع الهاتفين: سمعنا وأطعنا يا شيخنا وآمنّا بما تقول قبل أن تقوله.. ولن يستطيع المخالفة لأن أي خروج على هذه القواعد يعكّر الفهم ويغلق سبل الاستدلال، إضافة لكونه من وسوسات إبليس الذي يوسوس في صدورالناس.
--- --- ---
حوار العلم والدين...
(الحلقة الثانية)
كيف يقدّم زغلول النجّار مقولاته حول الإعجاز العلمي؟
في البدء لا يستغربنّ أحد ضخامة حجم كتب زغلول النجار بشكل عام، فهو يقدّم في كتابه موضوعاً بسيطاً، وارداً في آية واحدة أو آيتين من سورة واحدة، وبالتالي فإن عدد كلماتهما في أقصى حدّ ممكن هو عشرون كلمة تزيد قليلاً أو تنقص كثيراً. لكنه وحين يبدأ في عرض فكرته يقدّم لنا شرحاً وافياً مفصلاً عن جوانب العقيدة والأخلاق والتشريع ونظام الإعجاز الذي يراه في السورة كلّها والتي ربما تزيد صفحاتها عن العشرين أو أكثر في بعض الأحيان، فيجد القارئ نفسه في فيضان من الشروحات لمختلف جوانب السورة وتفصيلاتها، كما أنه يسهب في الاقتباس والنقل عن مفسرين كثيرين، قدماء ومحدثين بما يؤكد ما يراه في تفسيره. وفوق هذا كله يقدّم لنا كل ما اكتشفه العلم حول هذا الموضوع، مزوّداً إيانا بصور عديدة وتخطيطات كثيرة هي في جوهرها لا علاقة لها بالآية إلا من قبيل الاستنتاج، لا من قبيل البحث العلمي.
وسنبدأ حكايتنا معه في تفسيره للآية التي تتحدث عن النحل، وهي الآيات 86،96 من سورة النحل، ويلاحظ أن موضوع النحل ليس موضوعاً رئيسياً في السورة التي سمّيت باسم النحل لورود هاتين الآيتين فيها.
في الآية الأولى (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون)
فما هي وجوه الإعجاز التي يقدّمها زغلول النجار في هذا السياق من هذه الآية؟
يرى في البدء أن المحور الرئيسي للسورة يدور حول قضيتي العقيدة والدعوة الى الأخلاق، وبالتالي يسهب في شرح العقيدة الإسلامية القائمة على التوحيد والعبودية والربوبية وما الى ذلك من مفاهيم هي أصلاً مادة القرآن كله.ويسهب في ذلك حتى ما يزيد عن العشر صفحات. ثم يردفها بحديث عن الإشارات الكونية في السورة والتي منها قضية خلق السموات والأرض وما عداهما وما بينهما والتعقيب بعظمة الله في هذه المسائل، ويقطع هنا ما يقارب العشر صفحات الأخرى، ويصل بعدها إلى حكاية النحل التي هي محور الفصل الأول من شواهد الإعجاز لديه.
يبدأ بوضع رسوم للنحلة وأجزائها وتفاصيلها ورسوم تبيّن الفرق بين الذكر والنحلة العاملة والملكة في عالم النحل، ويقف عند تقديم السمع على البصر في القرآن، لأن الدراسات العلمية حسب قوله أثبتت أسبقية نشاط حاسة السمع على البصر في أجنّة الانسان لذا فالجنين يسمع قبل أن يرى؟؟؟ فهل يريد منه أن يطلّ خارج السائل المحاط به ليرى؟
ثم يستنتج من الآية أن الطيور مسخرات في جوّ السماء لا يمسكهنّ إلا الله، ولم يخبرنا كيف ذلك، مع أن الإمساك بالطيور مسألة لا علاقة لها بالإعجاز ولا حتى بالقدرة الإلهية.
بعد ذلك يبدأ بنقل أقوال المفسرين، فيأخذ عن ابن كثير وسيد قطب ويكتفي بهما.
فما هي الدلالات العلمية في الآية 86 من السورة، لنقرأ ما كتبه: واضح من الآية أن النحل المقصود بالنحل هنا هو نحل العسل... بدلالة أنه يخرج من بطونها شراب مختلف. وأن الإقامة في الجبال والشجر هو من إيحاء الله لها، إذ لو لم يوحِ سبحانه لها لوضعت خلاياها في أماكن أخرى. لذا فالوحي لها هو من قبيل الإلهام الفطري الغريزي أو في الشيفرة الوراثية الخاصة بنوعها أو أن الله ألقاه في روعها بعلمة وحكمته وقدرته، وهو يسميه «العلم الوهبي». بعدها يبدأ في استعراض المعلومات العلمية العامة حول النحل وعددها وتكوينها مما يمكن العثور عليه في أي كتاب للعلوم، مبيناً بالأرقام عدد الذكور والإناث في كل خلية واصفاً كل نوع على حدة، ثم يبين بالصور مراحل دورة حياة نحل العسل منذ وضع الملكة البيوض حتى قيام النحلة المكتملة النموّ من خليتها. وهو يرى في كلمة (أوحى) لتدلّ على الماضي والحاضر والمستقبل لأن الزمن الإلهي لا يُحدّ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كنْ فيكون... بما في ذلك الزمن، ولا أحد يدري ما الذي يمكن أن يربط بين هذه المفاهيم سوى رغبة كاتبها في إغراق القارئ في مفاهيم دينية متداخلة.
بعد ذلك يعرض زغلول الفترة الزمنية التي وجد فيها النحل على الأرض قبل اكثر من مائة وخمسين مليون سنة مستنتجاً أن هذا كان قبل خلق الإنسان وأن كلمة (ربك) في الآية تعني مفاهيم عقيدية ذات علاقة بالربوبية والألوهية وغيرها من مصطلحات القرآن المتعددة، بما يعني أن ما غرزه الله في فطرة النحل لإنتاج العسل تعجز البشرية كلها عن الاتيان بمثله، أي العسل.وحين يتعرض لعملية بناء الخلايا تتدخل القدرة الإلهية في تنظيم كل هذه المسائل بالإلهام الإلهي للنحل لفعل ذلك مبيناً بعد ذلك مباشرة أن اتخاذ القرار ببناء البيوت يحتاج لعمليات استطلاع وبحث وتشاور مكثفة حتى يتمّ الإجماع على ذلك وتبدأ الشغالات بالعمل، وذلك بإلهام الله للنظام السداسي الأضلاع للقضاء على على المسافات البينية بينهاثم يأخذ بشرح عملية البناء والإنشاء مما عرفه العلم الحديث، ويمكن لطلاب المدارس معرفته من كتبهم المدرسية.
في الجزء الثاني من جولته في عالم النحل يتناول زغلول النجار في شرحه للآية 96 من السورة معاني الكلمات المتممة للنص (كلي من كل الثمرات) ويذكر قول ابن كثير الذي يؤكد الإذن القدري التسخيري من قبل الله للنحل لتفعل ذلك، إذ هي لا تأكل إلا بقرار إلهي، ولا تعرف طريقها للخلية إلا بإلهام إلهي، ولا تنتج العسل إلا بمثل هذا القرار.. ويستدل على مقولاته بما ورد في تفاسير الزمخشري وابي حيّان وسيد قطب وكتاب صفوة البيان لمعاني القرآن، وكتاب منتخب التفاسير وكتاب صفوة البيان وعدد عديد من الكتب بما يزيد عن عشرات الصفحات وهو يرى أن كلمة (الثمرات) إنما تعني الزهور بما فيها الخلايا التناسليةالتي تنتجها النباتات المزهرة من حبوب اللقاح وغبار الطلع وبويضات الزهور شارحاً ما ورد في كتب العلم عن هذه المعلومات الأولية، ويستمر الإلهام الإلهي للنحل في إنتاج العسل ومدى نشاط الشغالات ورحلاتهن بين الأزهار والخلية ويقدم إحصائية عن عدد الطلعات الجوية للنحل وكم تحمل كل نحلة من مواد وعدد الزهرات التي يتم الوصول اليها، مبيناً أن الله زوّد تلك الحشرات بحواس متطورة للبصر والشمّ والذوق لإنتاج غذاء الملكات شارحاً بتفصيل تكوين هذه الحواس ويصبح معنى الآية (فاسلكي سبل ربك ذللا) اصنعي من رحيق الأزهار وطلوعها وحبوب اللقاح فيها عسلاً وغذاء ملكياً وشمعاً وخمائر أي أنزيمات وسموماً..الخ وذلك بإلهام الله للنحل لفعل ذلك.. بعد كل هذه الجولة الطويلة يستنتج زغلول النجار أن هذه الحقائق العلمية لم تكن معروفة في زمن الوحي ولا لقرون متطاولة بعده لذا فإن جمعها في القرآن بهذه الطريقة (المعجزة) يشهد بأن القرآن كلام الله ويشهد بالنبوّة لمحمد.
من هنا فإن منهجية زغلول النجار لا تقدّم لنا القرآن كنصّ معجز إلا من خلال استعراض ما اكتشفه العلم الحديث حول الموضوع مناط البحث، ومحاولة اعتبار الآيات شاملة لكل هذه المعلومات المكتشفة، مع أن النص سواء عند الذين جاء فيهم، أو في العصر الحديث لا يشير علىالإطلاق إلى ما ذهب إليه زغلول.. لأن الإعجاز هو إدراك الأمر عند وروده وليس بعد أن يقدّم الآخرون ما لديهم من علم، خصوصاً وأن الإعجاز بدأ في حياة العرب منذ بداية ظهور الإسلام ، وكان على العرب آنذاك، أو بعد ذلك، اكتشاف جزءٍ ولو بسيطاً من هذه المعلومات، أو على الأقل يكون القرآن قد ساعدهم على الاكتشاف ليسبقوا به الأمم الثانية، ولكن لا شيء مما نقول قد حدث، ما يجعل من الإعجاز فكرة في ذهن المؤمنين بها ليس إلا...
بعد ذلك يشرح الكاتب عن العسل الذي (يخرج من بطونها) ليصبح (شراب مختلف ألوانه) ليعيد علينا أهمية السورة التي ذكر فيها النحل في مجال العقيدة وما فيها من إشارات كونية وما تدعواليه من مكارم الأخلاق، ثم يشرح معنى (البطن) ويعيد ما نجده في الكتب العلمية عن تقسيم بطن النحلة الشغالة وجهازها الهضمي وكيف تحمل الرحيق وتعود به ليصبح ذلك الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس، ليأخذ في توصيف أنواع المنتجات من عسل النحل ومكوّناته الكيماوية والغذاء الملكي وتركيبته الهلامية المعقدة، وشمع النحل المكون من بالميتات المريسيل وصمغ النحل وغراؤه (العكبر) وكيفية تشكله ووظائفه، وسمّ النحل المستخدم لدفاع النحلة عن نفسها، ومن ثمّ خبز النحل الذي يستخدم لتغذية يرقات النحل، ويقف عند كل منتج وقفة يمكن العثور عليها في أي كتاب علمي عادي، وبعد جولته هذه في البطون وما تنتج، يقدّم لنا في القسم الأخير من رحلته مع النحل، جولة في فوائد العسل ومعنى أنه (شفاء للناس)، ويفصل اقوال العلماء من المفسرين المختلفين على مفهوم الشفاء وحدوده وأنواع الأمراض التي يستخدم لشفائها، وهل هي القرحة أم الدمامل أم لكل الأمراض بما فيها الإسهال والجدري ونقص المناعة، ويورد الأحاديث التي تجعل مع العسل شركاء في الشفاء كالكيّ بالنار والحجامة وقراءة القرآن بصفته كذلك فيه (شفاء ورحمة) كما ورد في وحدة نصيّة قرآنية ثانية،وبعد ذلك يتناول ما توصّل اليه العلم من فوائد العسل ناسباً ما يورده للدراسات المختبرية والتجربة لعلاج الجروح والقروح والتهابات الجمرة والغدد العرقية وتخسين وظائف الكبد والبول السكّري وتقوية القلب ونبضاته والبلهارسيا والنزلات الشعبية والربو وذلك عبر خمس عشرة نقطة متتابعة في كل نقطة منها عدد من الأمراض التي يستخدم العسل لعلاجها، معقّباً على أهمية غذاء الملكات ودوره في العلاجات المختلفة في سياق تسع نقاط تتضمن كل نقطة عدداً من الأمراض التي تعالج بهذا الغذاء وبعدها يورد ما يمكن معالجته من الأمراض باستعمال شمع العسل وسمّ النحل وخبز النحل وكذلك صمغ وغراء النحل لنكتشف القدرات الشفائية الهائلة للعسل وتوابعه ما يدلّ عند الكاتب على إعجاز القرآن في إيراده لهذه المعلومة عن العسل وكونه شفاء للناس، حتى كأن ملعقة عسل تحتوي صيدلية كاملة يمكن بها الاستغناء عن أي طبيب أو دواء.
ونعود لسؤالنا الأول: أين كان العرب من كل هذه المعلومات عندما مكثوا أكثر من خمسة عشر قرناً يرددون هذه الآيات حول النحل والعسل، فلم يكتشفوا شيئاً إلا بعد أن قدّم العلم الحديث مكتشفاته؟..
--- --- ---
حوار العلم والدين...
(الحلقة الثالثة)
الخلق
لم يواجه المفسرون للنص القرآني مشكلة عويصة كما هو الحال في قصة الخلق، البدء والإعادة، النشأة والتكوين، وقد أفضت هذه المواجهة في بعض الأحيان إلى مقولات وتفسيرات غريبة عجيبة تثير السخرية أحياناً، والمرارة أحياناً أخرى. لكنها بقيت لدى د. زغلول النجّار واحدة من قضايا الإعجاز القرآني الذي يؤكد على مقولات عقائدية في الوعي الدين للمسلمين. والسبب الكامن خلف التناقضات في الوعي إنما تقوم على اختلاف وتعدّد الكلمات التي تناولت هذه القضية وتباين المفاهيم في بدء الخلق وإعادته وتجديده، وتفسير المعاني الكثيرة لكلمة (الخلق) في اللغة العربية.
ونحن هنا لن نعيد قراءة وكتابة ما ورد من معان لهذه الكلمة أو تلك في التفاسير المتعددة والمتناقضة، ولكننا سنبيّن ما أورده زغلول النجار في هذه المسألة وكيف توصل الى كونها من معاني الإعجاز القرآني، وكيف حلّ التناقض الذي وقع في آراء غيره.
نقاط أساسية في في فهم عملية الخلق من النص القرآني:
1. لا خلق للإنسان من عدم، وذلك بناء على الوحدة القرآنية التي تقول: خلق كل دابة من ماء (النور 54) وكذلك: خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم. (يس 36) وكذلك: أم خلقوا من غير شيء(الطور) 35
2. ان مادة الانسان الأولى هي التراب كما تقول الوحدة القرآنية: (أكفرت بالذي خلقك من تراب؟) (الكهف 37).
3. أن الطين انما هو التراب والماء، لكنه في النص القرآني يوصف بأنه (لازب) و(صلصال) و(حمأ: مسنون وغير مسنون) و (عَجَل الذي هو الطين)
4. أن تحوّل الطين لحالة خلوية (نطفة) لم ترد تفاصيله، لذا فهو فيما بعد، وكما هي عملية الحمْل والولادة فإن الوحدات القرآنية تنتقل الى هذه الوسيلة في الخلق دون أن تبيّن كيف حدث هذا كقول الوحدة القرآنية: إنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة... (الحج 5)
5. أن تلك النطفة تكون (ماء دافق ) و (ماء مهين) و (أمشاج) و تتغيّر حالتها بعد ذلك حسب الأطوار التي تكون فيها
6. ان الإنسان خلق في (كبد) أي تعب، ولا يبين النص من هو الذي يصيبه الكبد.. والأرجح أنه المخلوق لأن الخالق لا يصيبه التعب .
7. أن الخلق في منشئه لم يتمّ بقولة: كن فيكون ، كما هي قدرة الخالق المطلقة، بل أخذت زمناً لأن خلق الأرض أخذ يومين من الأيام الستة للخلق: خلق الأرض في يومين (فصلت 9)
لذا فليس هناك اختلاف بين الناس، سواء المتديّن العلماني في المراحل اللاحقة لحالة الحمْل والولادة، حيث النطفة والعلقة والمضغة المخلّقة أو غيرالمخلّقة ومن ثم يكون هناك الاتفاق على أطوار عملية وجود الانسان، لكن المتديّن يرى أن كل طور وكل مرحلة إنما تتمّ بتدخل إلهي مباشر وأنه لولا هذا التدخل لبقي الكائن في الطورالسابق لتوقّف الإرادة لدى الخالق، في حين يرى العلماني أنه العملية لا تتوقف ما دامن مستوفية لشروط الوجود والاستمرار.
فما الذي يقدمه زغلول النجار في هذا المجال؟
كعادته في عرض آرائه يبدؤها بما يشترط على القارئ من إيمانيات وقناعات دينية تتطلبها عملية القراءة، مع اليقين بأن النص القرآني هو ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وأنه بدون هذه الإيمانيات المسبقة فإن الشرح والتفسير وبذل الجهد في هذا المجال لا قيمة له، وهو ما أسميناه ( المصادرة على المطلوب) لأن الحديث الذي يُوجّه للمؤمن أصلاً ليس هو ذاك الموجّه أصلا لغيره، وإلا فلا معنى للحوار بين رأيين متوافقين على النتائج من قبل.
مع كل آية يوردها زغلول النجار لإثبات مقولته يقدّم لنا عرضاً جديداً عن المعتقدات التي تندرج من فهم الوحدة القرآنية، والمعاني (العميقة) والدلالات (اليقينية) المستفادة من الوحدة القرآنية، مع أن معناها في ظاهرة لا يشير إلى أي شيء مما يذهب اليه الشيخ زغلول، وتخيّل كمّ الوحدات القرآنية التي تحدثت عن عملية الخلق والتي تتجاوز المائة، كيف سيكون محتوى كتاب يتحدث عن هذه القضية إذا اتبعنا أسلوب زغلول النجار؟
في كلامه عن العلق في تسجيل مصوّر له، يورد الوحدة التي تتحدث عن تتابع تطور الجنين من النطفة، وهي الحوين المنوي، أو البويضة كما يقول، ثم بالتقائهما تصبح أمشاجاً أي كثيرة الاختلاط ويشرح ذلك بأن البويضة تبدأ بالانقسام دون أن يذكر أن القرآن أخبر بذلك، وهناك فارق بين الاختلاط والانقسام داخل البويضة، ولكن الشيخ يدمج بين الصورة العلمية الانقسامية ومفهوم الاختلاط فيختلط الأمر على القارئ أو المشاهد، ولكن عرض الصور الملتقطة للجنين في بدايات تكوّنه، والشرح المتتابع لمكتشفات العلوم تضع القارئ والمشاهد في دوّامة بحيث يجد نفسه، إن كان مؤمناً سلفاً في دائرة التصديق، بينما تضعه في دائرة الحيرة إن كان علمانياً، والحيرة لا بمعنى الشكّ في علمانيته، بل بطرح سؤال: ما الذي يقوله هذا الرجل؟
سيكون بالتأكيد كتاباً ضخماً ذا متاهات تبدأ بأخذ القارئ الى مديات تنتهي بالقول إن هذه الوحدات تؤكد إعجاز القرآن، وأنه سبق العلم الحديث في الوصول الى هذه الحقائق، مع أن العرض كله يعتمد على مكتشفات العلم الحديث مرفقة بالصورالتي قدّمتها الكتب العلمية ما يمكن العثور عليه فيها دون الرجوع لكتب الشيخ زغلول وتأويلاته وشروحه. ولا ينسى الشيخ الاستفادة من مقولات المفسرينالسابقين، لكنه لا يجد لديهم ما يؤكد مقولاته فيعود للاستنجاد بالعلم الحديث ومكتشفاته. ويغفل الشيخ في عرضه لتلك الوحدات عن عملية (نفخ الروح) في الجنين مبيناً أنها فقط من علم الله وأن الجنين قبل أن يبدأ الحركة يكون بدون روح، فلم يربط بين لحظتي ما قبل نفح الروح ولحظة النفح لأن الروح من أمر الله مبيناً سفاهة ما لدى الانسان من علم (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) .
العلم لا يعتقد بوجود شيء اسمه نفخ الروح وإنما هي عملية تطوّر نوعية تصيب الجنين إذ يكتمل نموّ جهازه العصبي بما يجعله قادراً على الحركة، وهو التغيّر الذي يرى فيه الشيخ زغلول وغيره من المفسرين أنه تدخّل نوعي إلهي في عملية الخلق يتمّ نتيجة نفخ شيء إضافي في الجنين هو الروح. وهي ذات الروح التي يقول المفسرون أنها نُفخت في آدم عندما كان في مرحلة الطين مهما كانت نوعيته، إذ نفخ الله فيه من روحه ليكتمل خلقه ويخرّ له الملائكة ساجدين. لذا فمفهوم الروح مفهوم غيبي يرى المفسرون أن الحديث فيه مما لا يقع تحت قدرة الوعي البشري، ومن هنا تتراكب عليه مجموعة من المعجزات التي هي دلالات على قدرة مطلقة للخالق.
ان مشكلة تفسير الوحدات القرآنية على ضوء العلم الحديث مسألة يختلف فيها المفسرون أنفسهم، خصوصاً أولئك الذين يرون التناقض واضحاً بين مقولات العلم ومقولات النص القرآني، وها هو سيد قطب في كتابه (خصائص التصوّر الإسلامي ومقوّماته) يرى أن الذين يفسرون بهذه الطريقة معتمدين على العقل ومنهجية الفلسفة إنما هم مهزومون أمام الحضارة الحديثة وأنهم يحاولون اللحاق بها بالتسلق على حبالها فيفقدوا بوصلتهم الإيمانية. لذا فالتفسير يجب أن يشير فقط إلى أن القرآن إنما هو كتاب هداية، وليس كتاب علم أو تاريخ أو فيزياء وما إلى ذلك، وأن ما ورد فيه من الإشارات حول هذه المواضيع إنما هو بمستوى وعي الناس آنذاك، ويجب أن لا يحاول المفسرون حشر الوحداتالقرآنية في قوالب العلم الحديث فتكون الآراء متناقضة خصوصاً وأن العلم متغيّر ولا يقين نهائياً فيه، لذا فالمفسرون بالعلم الحديث سيقعون في مآزق عقيدية كبرى عندما يغيّر العلم آراءه، ويضرب مثلاِ لذلك كيف فسّر البعض بعض الوحدات القرآنية على ضوء نظرية دارون وكيف وجدوا أنفسهم في مأزق بعدما واجهت تلك النظرية ما واجهته من انتقادات لدى علماء معارضين لها.
--- --- ---
حوار العلم والدين...
(الحلقة الرابعة)
الاستنساخ
رغم ان زغلول النجار يشترط لمن يريد فهم الإعجاز القرآني أن لا يقوم بليّ أعناق الآيات لتتناسب مع الفهم الذي يفهمه، أو مع الحقيقة العلمية التي تبدو متناقضة مع النص القرآني إلا أنه خير من يقوم بهذه الفعلة، فيلوي المعاني والألفاظ، ويحشرها في قالب الفهم الذي يرتئيه. هذا الفهم الذي يقوم على مسلّمات عامّة تمّ تلقيها من نصوص عامّة وردت في النص القرآني، أو في أحاديث تنسب للنبي ولا أحد يمكنه الثقة بهذه النسبة في ظل الاضطراب الحاصل بين المحدّثين وعلماء الرجال في عمليات تصحيح وتضعيف تلك الأحاديث.
في هذه المسألة شطح الشيخ زغلول شطحة مُضرية، وذهب بالوحدة النصّيّة القرآنية بعيداً، واستنجد بكل ما وصل إليه علمه (علم الأديان ومن ثمّ علم الأبدان) ليؤكد ما يريد هو الوصول إليه، وكأني به انحشر في زاوية وبدأ يضرب بيديه يميناً ويساراً لتوسعتها بدل أن يعمل على الخروج منها فيريح ويستريح. وقد أسميت هذه الحلقة: الاستنساخ في رأي شيخ الأشياخ، على طريقة المؤلفين القدامى.
جاء الاستنساخ صفعة قوية على عقول ووجوه كل القائلين بالحلول الدينية المطلقة لقضايا العلم، لا لوضوح تحريمه بالنصّ الواضح إذ لم يرد شيء في هذا الصدد، ولا لصعوبة فهمه بناء على معطيات العلم الذي قدّمه للبشرية، ولا لأنه مسألة معقّدة، وإنما لأنّه مسّ مسألة في صميم الإيمانيات الغيبية للمتدينين السطحيين الذي اقتطعوا النصوص من سياقها وأصدروا من خلال فهمهم لها فتاوى لا يأتيها الباطل من أي مكان.
التحريم في الحياة عموماً، وفي الأديان بشكل خاص يمسّ حياة الناس اليومية وسلوكياتهم المباشرة، وليس هناك من قانون أو فكر أو دين يمكنه وضع قانون تحريمي في مسألة معينة ما لم يكن الناس قد عاشوها بتجربتهم، ومن هنا نفهم تاريخية كل النصوص القديمة من دينية أو قانونية، وهذا ما أورده سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق» الذي نعى فيه على القائلين بوضع افتراضات لمشاكل لم يمرّ بها الناس، وإنما يجب أن تحدث الحلّ عندما تحلّ المشكلة واعتبر سيد قطب أن الذين يضعون الحلول الجاهزة للمشاكل التي لم تحدث بعد لا يفهمون روح القرآن ولا زمنيته وتاريخيته الحيوية.
الاستنساخ مسألة علمية واكتشاف إنساني رفيع المستوى وإن لم تنضج عملية إعداده ليكون في متناول البشرية بشكل سهل ومفيد، وهو بالتأكيد سيكون مفيداً جداً للحياة الانسانية، في حين يقيم الشيخ زغلول قيامته شجباً ولعناً وتحريماً وتجريماً لكل من له علاقة بالاستنساخ. ولكن كيف تأتّى للشيخ أن يفتي بهذه الطريقة وليس من نصّ ولا شبهة نص تشير لذلك؟
يقف زغلول النجار عند الوحدة النصيّة القائلة: ولأضلّنّهم ولأمنينّهم ولآمرنهم فليبتّكنّ آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيّرنّ خلق الله (النساء 911) والحديث حوار بين الله والشيطان عندما لم يسجد الأخير لآدم فأصدر الأول حكماً عليه بالطرد واللعن والخروج من الجنة، فهدده الشيطان بإغواء خلقه من بني البشر (أبناء خصمه آدم، ولا أحد يدري كيف علم الشيطان بالآتي من المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله)، وذلك بإضلالهم ووضعهم في بوتقة الأماني الكاذبة وليقوموا بتبكيت أي تثقيب وتشويه آذان الأنعام، كما سيقومون بتغيير خلق الله.
أين هي حكاية الاستنساخ التي تناولها زغلول النجار في هذه الوحدة النصيّة؟
اعتبر الشيخ أن تغيير خلق الله يتمّ حين ينجح الاستنساخ وتبدأ البشرية باستخدام أعضاء من الكائنات المستنسخة ووضعها في الكائنات العادية، لذا فهذاتغيير في خلق الله الذي خلق الانسان في أحسن تقويم، وهو من إيحاء وإغواءالشيطان. وحين تأكد الشيخ من معقوليته اجتهاده بينه وبين نفسه حمل حملة شعواء على الاستنساخ لأنه مكلف جدا وعواقبه وخيمة وعملياته غير مضمونة، وأن 09٪ من العمليات تفشل، ويكون الكائن المستنسخ ضعيفاً ولا يستطيع العيش طويلاً وليست لديه مناعة وهناك حجب وغموض تدور حول عمليات الاستنساخ وأنه بالرغم من كل هذه المساوئ فإن الشيطان مازال يزيّن للناس الاستنساخ، وبالتالي فإن دعوة الأمم المتحدة لزيادة الجهود في هذا المجال إنما هي دعوة خبيثة تدعو لانفلات المرأة والاعتراف بالشذوذ وتدمير الأسرة كما قال (لم يخبرنا الشيخ كيف سيكون ذلك).
ثم يختتم الشيخ مقولاته هذه بالقول إن خلق الكون وخلق الحياة وخلق الانسان إنما هي قضايا غيبية تماماً لا يعلمها إلا الله.. كل ما سبق ورد في مؤلفه الكبير حول الإعجاز في القرآن في تفسير آيات الإعجاز في سورة النساء.
أي ليّ للنصوص يشبه مثل هذا الليّ؟؟؟
وأي فوضى فكرية يمكن إحداثها في الذهن البشري أكبر من هذه الفوضى؟؟
وأي تجنّ على النصوص وشرحها مثل هذا التجني؟؟؟
وهنا نستعيد مقوله سيد قطب في الحلقة السابقة عن أمثال الشيخ زغلول بأنهم المهزومون أمام الحضارة الغربية، والعاجزون عن تقديم الإسلام كما هو بدون محاولة حشره قسراً في أنفاق التفسيرات المجحفة.
--- --- ---
حوار العلم والدين...
(الحلقة الخامسة)
عن الأرض والسموات
كان العربي ينظر للأعلى فلا يرى في النهار سوى سماء زرقاء جداً وصافية جداً، ويندر أن تتوشّح بالغيوم، أما في الليل فكان يرى النجوم ساطعات ومتلألئات ويمكنه بالتالي تمضية الليل يعدّهن ويطلق عليهن من الأسماء ما يريد، ويصل به الأمر إلى أقصاه حين يجعل من تلك النجوم علامات يهتدي بها في مسيره في الليالي الطويلة... من ثمّ ابتكرالعربي لفظة (سماء) للدلالة على العلو والسّموّ والارتفاع سواء في المكان أو الزمان أو القيمة. لذا كان كل عالٍ سماء، وكل سماء يجب أن تكون بالضرورة عالية ومرتفعة. لكنه في سياق استخدامه لهذه اللفظة أعطاها معنى مادياً محدداً يمكن تخيّله بصورة أولية كسقف يعلو كل سقف دونه، وكمنطقة هي أعلى من قدرته على الوصول، لكنه يؤمن أن ما فوقه سقف ما لبث أن وضع له مواصفات وبنى من مخيلته عوالم متراكبة فوق هذا السقف.
وهذا الأمر ليس مقصوراً على الأمة العربية وعلاقتها بالعلوّ وبالسماء التي تراها فوقها، فكل الشعوب والأمم في مرحلة طفولة العقل البشري واعتماده على ذاته فقط في المعرفة كانت ترى آراء قريبة من الرأي العربي في تلك الفضاءات التي تعلو وتوقف البصر عند حدود الأزرق نهارا والأسود ليلاً.
حين ظهر الإسلام في بلاد العرب وقدّم لهم نصّه القرآنيّ حمل فيما حمل مفاهيم العرب في تلك المرحلة، وتضمّن فيما تضمّن رؤيتهم عن الكون والحياة والإنسان مضيفاً إليها بوضوح تام تصوّره عن حياة ما بعد الموت ومصير الناس مؤمنهم وكافرهم بعد تجربة الحياة التي عاشوها، ولأنه جاءهم بلغتهم فإم مفرداته ستحمل ذاتالدلالة الموجودة في اللغة باستثناء بعض المصطلحات التي أعطاها معان جديدة مختلفة وجعل منها مصطلحات خاصة به، كالصلاة والحج والصوم التي أخذت دلالات عمليه وشملت طقوساً محددة.
بقيت في هذا السياق مفردة (السماء) تحمل ذات الدلالات التي كانت معروفة لدى العرب آنذاك.
إنها السقف الذي يرونه أزرق نهاراً وأسود ليلاً، بيْد أنه في الليل يكون مزيّناً (بمصابيح) معلقة في هذا السقف، تماماً كما يعلّق أحدنا مصابيح متدلية في سقف بيته. إلا أن النص القرآني أضاف معلومات جديدة للمعرفة العلمية العربية حول الموضوع دون أن يوضّح الفارق في المعنى بين الألفاظ التي يستخدمها. فمثلاً بقيت لفظة (السماء والسموات) تختلط في معانيها بمفردة (الشمس) حيث اجتهد المفسرون في شروحهم للعلاقة بين اللفظين، ففي الوحدة القرآنية التي تقول: (أو لم ير الذي كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما) كانت السماء هنا بمعنى الشمس التي كانت مع الأرض كتلة واحدة ثم فصل الله بينهما بقدرته وحكمته. أما في الوحدة القرآنية التي تقول: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً فقالتا أتينا طائعين) فالسموات هنا ليست هي الشمس التي وردت آنفاً وإنما هي حالة غيبية لا أحد يعرف عنها شيئاً.
في شروحه للإعجازات القرآنية يقف الشيخ زغلول النجّار من هذه القضية الشائكة موقفاً يجعلها أكثر غموضاً، ويضع ترتيباً لعملية الوجود الكوني الذي في الوعي العربي آنذاك كان يتكوّن من الأرض والشمس والقمر وبعض النجوم المرئية بالعين المجردة ليس إلاّ، مضافاً إليها صورة غيبية عن عالم فوق كل هذه، لا أحد يعرف عنه إلا ما تداولته الأساطير القديمة وما تفتقت عنه الخيالات البشرية عبرالتاريخ وتناقلته الألسن دون تحقيق أو رؤية توضح التفاصيل.
يرى زغلول أن الكون بهذا المعنى القديم مرّ بأربعة مراحل هي: الرتق التي كان فيها الكون متكدّساً على هيئة جرم واحد، دون تفصيل حجمه ولا مكانه ولا كيفية وجوده في مكانه، وهذا اعتماداً منه على نظرية التوسّع الكوني وبالعودة الميكانيكية في الزمان والتصاغر الطردي لهذا الكون ليصل في رأي الشيخ إلى جرم صغير هو بداية الوجود. بعد ذلك تأتي مرحلة الفتق حيث تحوّل الكون إلى سحابة دون معرفة كيف ولا لماذا ولا أين ولا متى حدث هذا التحوّل، لكنها ومن سحابته هذه ينطلق الى مرحلة الدخان وهو المكوّن الأول الذي خلقت منه الأرض و(السموات) دون تحديد المعمى المقصود لهذه المفردة، ثم تأتي مرحلة الإتيان، وأنه بعد هذه المرحلة بدأ الكون في التوسّع بعد انفجاره وأن هذا التوسّع سوف يتوقف في مرحلة معينة بأمر منه تعالى، ويبدأ الكون في الانطواء على ذاته والتكدّس في جرم واحد كهيئة الجرم الابتدائي الأول الذي بدأ منه خلق السموات والأرض وتتكرر عملية الانفجار والتحول إلى دخان الذي تُخلق منه أرض غير أرضنا الحالية وسماوات غير السماوات التي تظللنا في الحياة الدنيا (والكلمة تحيل إلى معنى السقف) وعندها تنتهي الدنيا وتبدأ مرحلة الآخرة.
هذا الفهم يضعنا أمام أسئلة كثيرة كبيرة حائرة، بعضها حول المنظومة العلمية التي يعتمدها الشيخ ومحاولته الدمج بين العلم الحديث ونظرياته حول الانفجار الكوني وتمدد الكوّن وبين الكلمات الواردة في النصّ القرآني، دون اعتبار لمدى التوافق أو التضاد بين الاتجاهين: العلمي المعتمد على التجربة والاكتشاف واحتمال الخطأ والتطوّر المستمرّ في هذا المجال وبين الديني النصّي الذي يعتمد الحقيقة المطلقة الواردة في النص دون اعتبار لمتغيرات الحياة ومكتشفات العلم ونظرياته.
فالرتق هو اجتماع عنصرين متشابهين، كما يقال (رتق) الثوب أي جمع أطرافه الممزقة، وبالتالي فهو جمع بين متشابهين ربما يكونان من ذات التكوين، فهل كانت الأرض و(السموات) بنفس الكيفية؟
أما (الفتق) (ففتقناهما) فلا تعني انفجاراً، فالفتق هو حدوث فجوة بين العنصرين الذين كانا رتقاً أي مجتمعين، فانفتقا أي انفصلا لجزئين ولم يتفتتا كما يحدث في الانفجارات الكونية، وكلمة الانفجار والتفجير مستخدمة في القرآن (فجرنا الأرض عيوناًّ) لذا يمكنه القول: كانتا رتقاً ففجرناهما لو قصد النص الانفجار الكوني، ليكون بذلك أقرب للمفهوم العلمي، ولكن الشيخ يصرّ على اعتبار الفتق هو الانفجار، وشتّان ما بينهما.
أما الدخان والإتيان فالشيخ لا يثبتهما بالدليل العلمي ولا يشير إليهما إلا لماماً، إنما يطلب من القارئ أن يؤمن بما جاء في النص ويؤكد بعد ذلك أن هذه النتائج هي دلالة على إعجاز القرآن وسبقه إلى الحقائق العلمية.. كيف؟؟؟ لا أدري....
--- --- ---
(*) مروان علاّن باحث في فلسفة الفن الإسلامي وفنان تشكيلي له عدة كتب من إعداده وتحريره وتأليفه، بالإضافة إلى كونه رئيس تحرير مجلة تشكيل، ومن كتبه:
تجارب تشكيلية فلسطينية، كتاب تشكيل (1)، 2002
اللون والبوصلة، دراسات في التشكيل الفلسطيني المعاصر، كتاب تشكيل (2)، 2005
كي لا يبهت اللون أكثر، دراسات وردود في التشكيل الفلسطيني المعاصر، كتاب تشكيل (3)، 2005
من استانبول إلى أثينا، مشاهدات رحّالة على دراجة هوائية، 2007
وهو بصدد إعداد أطروحة دكتوراة عن الفن الإسلامي في قبة الصخرة في القدس.