دار الشروق، رام الله، 2011
مراجعة: سميح شبيب
ما قام به الزميل غازي الخليلي، بإصداره الجزء الأول من مذكراته الشخصية، هو فعل حسن، وبالمقاييس كافة. هناك تجربة شخصية وسياسية متنوعة وطويلة، غطت مرحلة كاملة، هي مرحلة تبلور الشخصية الوطنية الفلسطينية، وانبثاق الحركات السياسية، ومنها حركة القوميين العرب، وهذه التجربة، تحتاج إلى توثيق وإلى شهادات من عاشوها، ولم يعد ذلك شيئاً شخصياً، وملكاً لصانعيه، بل بات حقاً وطنياً يجب تعميمه ونشره.
أوراق عمر غازي الخليلي، تبدأ بمراحل طفولته المعذبة في نابلس، تروي الأوراق أدق التفاصيل في تلك الطفولة، منذ الولادة أواخر العام 1940، في حارة الياسمينة الشهيرة، من أسرة كادحة، لعل قراءة الصفحات الخاصة بتلك الطفولة وأوائل الشباب وعددها ينوف على مائة صفحة من أصل الجزء الأول، من الأوراق، وعددها 270 صفحة.
يمكن للقارئ أن يلحظ، بوضوح، انشداد الكاتب لمراحل طفولته، وقدرته على استحضار كل ما رآه وسمعه وعايشه، وكأنه أراد أن يقدم سجلاً شاملاً بالتفاصيل كافة، وبأدق التفاصيل، حول خصوصية الحياة في نابلس، بحماماتها وتفاصيلها الداخلية، وما يدور فيها من حياة وعمله في طفولته في الفرن، وحرمانه من حياة الطفولة التي يعيشها الأطفال، وتمر الذكرى على السنوات المدرسية الأولى وما لاقاه من صعوبات. هنالك وصف دقيق للحياة التربوية في المدرسة ولا يتورع الكاتب، من ذكر مسلكيات شاذة لبعض المدرسين، الذين كانوا لا يتورعون عن القيام ببعض تلك المسلكيات "مثل ذلك المدرس الذي كان بحجة معاقبة طالب ما، يقوم بإيقافه أمامه، والإمساك بأذنيه إلى الخلف كأنه يفركهما عقاباً له، في الوقت الذي كان يقوم فيه بالالتصاق به والضغط على مؤخرته من الخلف" (ص 51).
هنالك وصف جميل، للحب الأول، وهو حب بريء ورومانسي يعكس روح المكان وزمانه في آن.
تعكس الصفحات المائة، الخاصة بالطفولة وأوائل الشباب، واقع نابلس في تلك السنوات، وتصلح تماماً للتعرف إلى نابلس اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً في الوقت نفسه، وذلك من خلال ما شاهده وعايشه وسمعه الكاتب آنذاك.
تنتهي مرحلة الطفولة، بالسفر إلى دمشق، لاستكمال التسجيل في جامعة دمشق في أيلول 1970، والانتماء إلى حركة القوميين العرب. هنا يتغير المكان، كما وتتغير الاهتمامات والأفكار والنشاطات. عاش الكاتب في قلب مدينة دمشق، وهناك تعرف إلى طلبة فلسطينيين، ومن نابلس، وكان بعضهم قد سبقه في الانتماء إلى حركة القوميين العرب.
في نهاية العام 1960، التقى غازي مع الحكيم، جورج حبش، لتبدأ علاقة طويلة، تنتهي بوفاة الحكيم في عمان.
عاش المؤلف الحياة السياسية السورية، خلال تلك الفترة، بكل زخمها ونشاطها وحيويتها وتقلباتها ومفكريها السياسيين، أثر انقلاب 8 آذار 1963، في فكر المؤلف، الأمر الذي انعكس في نشاطه الحزبي في المحافظات السورية، ونشاطه داخل حركة القوميين العرب.
مع بدايات بروز الوطنية الفلسطينية في العام 1964، انعكس ذلك على مرآة حركة القوميين العرب، مما كان له الأثر الواضح على مسار المؤلف وانشداده نحو فكرة تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. منذ شهر نيسان 1966، تبدأ حملات اعتقال المؤلف من قبل السلطات الأردنية، نتيجة نشاطاته القومية.
منذ العام 1967 تبدأ مرحلة جديدة، وهي مرحلة حرب حزيران، واحتلال نابلس (يوم الأربعاء السابع من حزيران عام 1967) يوم محفور في الذاكرة باعتباره أكثر الأيام حزناً وألماً في حياتي عندما شاهدت الدبابات الإسرائيلية في قلب مدينة نابلس، ووقعت الكارثة التي كنت أخشاها، والتي لم أكن أملك القدرة على تصديقها واستيعابها" (ص 197). بدأ التفكير جدياً في الإعداد للمقاومة المسلحة، وكان للمؤلف دور فيها، هنالك أسماء وحوادث كثيرة، وتفاصيل مهمة لا غنى عنها. وتتناول الأوراق، مسألة خطف الطائرات، وإشكالات تحول الجبهة الشعبية إلى حزب ماركسي وما ترافق ذلك من انشقاق جناح من الجبهة، عمل تحت اسم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، يلحظ المؤلف، أنه وعلى الرغم من توجه الجبهة الماركسي بعد مؤتمرها الثاني، عانت منذ بداياتها الأولى، من التناقض بين ماركسية معلنة وبين سياسات وبنى تنظيمية، أبعد ما تكون عنها (ص 221)، ويصف الخليلي حالة الجبهة الداخلية، بالفوضى الفكرية، واليسار الطفولي، وصولاً إلى أحداث أيلول في عمان واعتقال الكاتب هناك.
ملاحظات منهجية:
تتميز أوراق غازي الخليلي، بالمباشرة والشفافية، وتعتمد على الذاكرة، وما تختزنه. لعل ما ورد في الجزء الأول منها، يبشر بأوراق تفصيلية سياسية أدق وأوسع، خاصة أن التجربة خلال سنوات 1970ـ2011، هي تجربة خصبة وهي الأكثر أهمية في سياق تطور الفكر السياسي الفلسطيني.
انشدت الأوراق لفترة الطفولة، التي استحوذت على زهاء مائة صفحة، مع الكثير من التفاصيل في مرحلة الطفولة لا تخدم المذكرات السياسية ولا تجربة المؤلف فيها.
هناك غياب للتفاصيل الخاصة، بالحياة الشخصية، للمؤلف، وللحكيم ولرفاق المسيرة، وهذا أمر مهم، في المذكرات الشخصية، وحيثيات التطور الذاتي والسياسي في آن.
يمثل رواج الكثير من الأحداث، لتصوير الأمور، وكأن المؤلف ذاته هو محور الحدث وأساسه، وهذا الأمر، هو أمر شبه سائد في معظم المذكرات الشخصية، الأمر الذي يفقد الحدث ذاته، الكثير من التشخيص الصحيح، وتوظيفه في السياق العام.
ما آمل أن تتضمنه الأجزاء التالية، هو تشخص ميداني، نابع من تجربة شخصية، تحافظ على أدوار الآخرين، نجاحاتهم وإخفاقاتهم، إضافة للمصارحة الشخصية، بما جرى مع الراوي، حفاظاً على تجربة الماضي، وضرورة استخدامها الآن ومستقبلاً في آن.
الأيام 19 نيسان 2011