نقترب بسرعة من استحقاق أيلول 2011، وتكثر الاجتهادات حول ما هو ممكن وما هو غير ممكن فيما يخص التوجه إلى الأمم المتحدة. وقد تسبب هذا الأمر في بلبلة لدى الرأي العام الفلسطيني والعربي والدولي، إذ ليس واضحاً أي من هذه الاجتهادات نابع عن اعتبارات سياسية فلسطينية مسبقة، وأي منها عن فهم كاف للإجراءات في الأمم المتحدة، وأي عن توقعات معينة لكيفية تصويت بعض الدول في مجلس الأمن والجمعية العامة، أو حتى عن ضغوط خارجية. أنوي في هذه المقالة تبيان الخيارات التي يمكن أن تنظر فيها القيادة الفلسطينية في توجهها إلى الأمم المتحدة، منها ما يتعلق بالتوجه مباشرة نحو الجمعية العامة (الخيارات 1)، ومنها ما يتطلب المرور عبر مجلس الأمن (الخيارات 2 والخيار 3)
الخيار 1-أ: التوجه إلى الجمعية العامة مباشرة من أجل استصدار قرار يوصي الأعضاء الذين لم يقوموا بذلك بعد، بالاعتراف بدولة فلسطين على حدود سنة 1967
يبدو لي أن مثل هذا القرار سهل المنال ويحتاج إلى أكثرية مطلقة من الأعضاء الحاضرين والمصوتين. وسيلتحق بقافلة القرارات التي تبنتها الجمعية العامة في القضية الفلسطينية منذ سنة 1974 والتي يمكن اعتبارها، نظراً إلى المبادئ التي تضمنتها، أقوى بكثير من هذا الخيار. فعلى سبيل المثال، اتخذت الجمعية العامة في دورتها الخامسة والستين التي افتتحت في أيلول/سبتمبر 2010، 17 قراراً مسانداً للحقوق الفلسطينية مثل: حق تقرير المصير، حق العودة وفق القرار 194، الحق في دولة مستقلة، عدم الاعتراف بضم القدس وبالتغييرات التي أحدثها الاحتلال، شجب الاستيطان...
الخيار 1-ب: التوجه إلى الجمعية العامة مباشرة من أجل الحصول على صفة دولة مراقبة في الأمم المتحدة
يبين ما يسمى «الكتاب الأزرق» الصادر عن دائرة البروتوكول في الأمانة العامة للأمم المتحدة، أن فلسطين تتمتع منذ سنة 1998 بالصفة التالية: «كيان تلقى دعوة دائمة للمشاركة كمراقب في دورات وأعمال الجمعية العامة وله بعثة مراقبة دائمة في مقر الأمم المتحدة». وتستطيع أكثرية مطلقة في الجمعية العامة أن تقرر في دورة عادية مقبلة منح فلسطين مكانة دولة مراقبة وإحلال تعبير «دولة» مكان تعبير «كيان»، فتلتحق فلسطين حينذاك بقائمة الدول المراقبة التي لم يبق منها حالياً إلا الفاتكان، بعد أن كانت 14 دولة تحتل هذه الصفة قبل أن تتمتع بالعضوية الكاملة. يجدر أن نذكر أن مثل هذا الوضع غير منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، إنما نتج عن الممارسة التراكمية للجمعية العامة منذ نشأتها. ومن الضروري أيضاً أن نلاحظ أن الجمعية العامة «أخذت علماً» في نهاية سنة 1988 بإعلان دولة فلسطين من قبل المجلس الوطني الفلسطيني في 15 تشرين الثاني/نوفمبر من السنة ذاتها، وأن أكثر من 100 دولة اعترفت في حينه بدولة فلسطين.
الخيار 1-ج: التوجه إلى الجمعية العامة مباشرة من أجل قرار يدمج الخيارين 1-أ و1-ب مع إضافات
يبدو لي أن القرار الذي اتخذته القيادة الفلسطينية في 26 حزيران/يونيو الماضي بالتوجه إلى الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر المقبل «للحصول على اعتراف بدولة فلسطين على حدود عام 1967، وعضوية فلسطين في الأسرة الدولية» قد صيغ بشكل ملتبس (ربما عن قصد)، وذلك لسببين. فأولاً، لا معنى لاعتراف منظمة الأمم المتحدة بدولة معينة، ولا أثر واضح لمثل هذا الاعتراف بحد ذاته. فما يمكن للجمعية العامة أن تفعله في قرار أوحد، هو شيء من القبيل التالي: الترحيب (وليس فقط أخذ العلم) بإعلان دولة فلسطين سنة 1988 مع ذكر الإنجازات الفلسطينية في بناء مؤسسات الدولة منذ سنة 1993 حتى اليوم؛ دمج الخيارين 1-أ و1-ب، أي توصية أعضاء الجمعية العامة بالاعتراف بدولة فلسطين، ومنح فلسطين مكانة دولة مراقبة؛ إعطاء بعض الامتيازات الإضافية لبعثة فلسطين الدائمة من الناحية البروتوكولية، أو من ناحية المساهمة في مناقشات الجمعية العامة، دون حق التصويت طبعاً. ثانياً، إن إعلان القيادة الفلسطينية بخصوص «عضوية فلسطين في الأسرة الدولية» مبهم هو أيضاً. فتعبير الأسرة الدولية مثقل بالعموميات، حتى أنه يمكن القول إن فلسطين عضو في الأسرة الدولية منذ ثلاثة عقود، بفضل مكانتها في الأمم المتحدة، ونسبة دول العالم التي تعترف بها، وشبه الإجماع الذي تحظى به لدى شعوب المعمورة. أما إذا كان المقصود في قرار القيادة الحصول على العضوية في الأمم المتحدة، فهذا تحكمه كما هو معلوم إجراءات من نوع آخر، أكثر صعوبة وأكبر دلالة من الناحية السياسية-الدبلوماسية، إذ يتطلب توصية إيجابية من مجلس الأمن، كما سنرى الآن.
الخيار 2: التوجه إلى مجلس الأمن للحصول على العضوية في الأمم المتحدة
كما هو معروف، يتطلب الحصول على العضوية في الأمم المتحدة قراراً بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين والمصوتين في الجمعية العامة بعد توصية إيجابية من مجلس الأمن. من المتوقع أن أية توصية إيجابية من مجلس الأمن بقبول الطلب الفلسطيني ستتبعها موافقة غير عسيرة في الجمعية العامة. ولكن المشكلة تكمن في حال لم ينل الطلب الأكثرية القانونية في مجلس الأمن (وهي 9 أصوات)، أو في حال أيدت أغلبية أعضاء مجلس الأمن الطلب الفلسطيني وعارضته دولة دائمة العضوية أو أكثر من خلال الفيتو. والسؤال المطروح طبعاً، هو هل تستطيع الجمعية العامة تخطي هذه الحالات في مجلس الأمن؟ أعتقد أن الجمعية العامة تستطيع اتخاذ أحد الإجراءات التالية، أو البعض منها:
الخيار2-أ: كردٍ على مجلس الأمن، تستطيع الجمعية العامة دعوته إلى إعادة النظر بموقفه
ثمة عدة سوابق في هذا المجال. إلى جانب تعبيره الإيجابي عن موقف مؤيد لفلسطين، يعكس هذا الإجراء رغبة الجمعية العامة بإبقاء طلب العضوية حياً في أورقة الأمم المتحدة إلى حين حلول ظروف مناسبة، مع إنه يبدو أنه من المستحسن إعادة تقديم الطلب حينذاك مرة أخرى (حال اليابان سنة 1952، ثم سنة 1956 مثلاً).
الخيار2-ب: كردٍ على مجلس الأمن، تستطيع الجمعية العامة دعوته إلى إعادة النظر بموقفه واعتماد فلسطين دولة مراقبة في الأمم المتحدة إلى حين تحقيق مطلبها بأن يعيد مجلس الأمن النظر بموقفه
يعني هذا الخيار دمج 2-1 و1-ب.
الخيار2-ج: كردٍ على فيتو دولة دائمة العضوية في حال وجود أغلبية مؤيدة لطلب دولة فلسطين في مجلس الأمن، تستطيع الجمعية العامة الطلب من محكمة العدل الدولية الإجابة عن السؤال المبدئي التالي: «هل يكون للتصويت السلبي لدولة دائمة العضوية قوة «الفيتو» في التصويت المتعلق بطلب العضوية؟»
على الرغم من أن الدول الدائمة العضوية الأخرى لن ترحب بمثل هذا التوجه الذي يمس بامتيازاتها، إلا أن عدداً من الدول الإقليمية الكبرى (كالهند والبرازيل والأرجنتين وجنوب أفريقيا) التي تتزعم المطالبين بإصلاح مجلس الأمن، قد ترى في هذا التوجه آلية تصب في مصلحتها. من الجدير بالذكر أن محكمة العدل الدولية، بأغلبية أعضائها، كانت قد أصدرت في آذار/مارس 1950 رأياً استشارياً اعتبرت فيه أن الجمعية العامة لا تستطيع تخطي توصية سلبية من مجلس الأمن بخصوص طلب عضوية، غير أن رأياً يمثل أقلية قضاة المحكمة اعتبر أنه كان يتوجب على المحكمة التمييز بين حالتين: الأولى، إذا تعذر حصول أكثرية في مجلس الأمن، الأمر الذي يؤدي إلى توصية سلبية؛ والحالة الثانية إذا وافقت الأكثرية على طلب عضوية، ولكن بوجود موقف معارض من دولة دائمة العضوية. ورأت أقلية قضاة المحكمة في الحالة الثانية أنه لا يجوز لدولة دائمة العضوية أن تعطل توصية أغلبية أعضاء مجلس الأمن وموقف ثلثي أعضاء الجمعية العامة المصوتين المؤيدين لقبول طلب العضوية من الدولة المعنية.
الخيار2-د: كردٍ على فيتو دولة دائمة العضوية في حال وجود أغلبية مؤيدة لطلب دولة فلسطين في مجلس الأمن، تستطيع الجمعية العامة تخطي الفيتو في دورة استثنائية خاصة اعتماداً على القرار 377 المعروف بقرار «متحدون من أجل السلام»
اتخذت الجمعية العامة القرار 377 في تشرين الثاني/نوفمبر 1950 خلال الأزمة الكورية وعبرت فيه عن استعدادها لأخذ زمام المبادرة والتوصية بالإجراءات الجماعية الضرورية للحفاظ على السلم والأمن العالميين، وذلك إذا لم يعد مجلس الأمن يستطيع القيام بهذه المسؤولية من جراء استعمال الفيتو من قبل دولة دائمة العضوية. ويستند هذا الخيار إلى الحجة القائلة إن تعطيل قبول فلسطين كعضو في الأمم المتحدة يهدد الأمن الإقليمي وإن القبول يساهم على العكس في الأمن والسلم العالميين. ويبدو لي أن هذا الخيار يتطلب خطوتين متتاليين. تتمثل الخطوة الأولى في أن توصي الجمعية العامة أعضاءها بقبول طلب العضوية المقدم من دولة فلسطين، وكأن الجمعية العامة تحل بذلك محل مجلس الأمن المعطل بسبب فيتو دولة دائمة العضوية. وتتمثل الخطوة الثانية في أن تصوت الجمعية العامة مرة أخرى، ووفق صلاحياتها الأصيلة، بالموافقة النهائية على التوصية. أما بالنسبة إلى الأكثرية المطلوبة في التصويت في كل من الخطوتين، فهي ثلثا أعضاء الحاضرين والمصوتين، مع ملاحظة أنه لا يعتد إلا بأصوات نعم ولا، في حين أن الامتناع عن التصويت يعادل عدم التصويت.
الخيار3: التوجه إلى مجلس الأمن بطلب الانضمام إلى النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية
تنص المادة 93 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه يحق لدولة ليست عضواً في الأمم المتحدة تقديم مثل هذا الطلب وفق شروط تحددها الجمعية العامة بناء على توصية من مجلس الأمن. وفي كل مرة حصل هذا الإجراء (بالنسبة إلى سويسرا واليابان مثلاً قبل انضمامهما إلى الأمم المتحدة)، أقرت الجمعية العامة، وبناء على توصية مجلس الأمن، الشروط التي يتوجب على الدولة مقدمة الطلب الالتزام بها من أجل الانضمام إلى نظام محكمة العدل الدولية. وفي كل مرة، تم وضع الشروط ذاتها: الالتزام بنظام المحكمة؛ الالتزام بالمادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة التي توجب القبول بقرارات المحكمة في القضايا التي تكون طرفاً فيها؛ التعهد بالمساهمة في تكاليف المحكمة بالقدر العادل الذي تحدده الجمعية العامة. ومن فوائد هذا الخيار، إذا ما اجتاز عقبة الفيتو في مجلس الأمن، أن يوفر الأدوات القضائية ذاتها التي توفرها العضوية في الأمم المتحدة، مثل اللجوء كدولة إلى محكمة العدل الدولية، والانضمام إلى نظام المحكمة الجنائية الدولية.
خلاصة
ليس من السهل وضع أوليات فيما يخص الخيارات المذكورة هنا. فمن جهة أولى، يجب التشديد على أنه من غير المناسب من الناحية المبدئية تحديد الأولويات بحسب فرص نجاح كل خيار في الأمم المتحدة، إذ إن معيار النجاح يجب أن يكمن في التقدم نحو تحقيق أهدافنا الوطنية، وليس بالضرورة في الحصول على هذا أو ذاك القرار. فقد يؤدي فشل إجرائي آني في الأمم المتحدة (من جراء فيتو أميركي مثلاً) إلى مكاسب سياسية على المدى المتوسط، في حين قد يكون تصويت للجمعية العامة لصالحنا مكسباً هامشياً ليس إلا. من جهة ثانية، تجد القيادة الفلسطينية نفسها أمام معركة سياسية-دبلوماسية حافلة بالمخاطر بعد تعثر المفاوضات، وتفاقم الممارسات الإسرائيلية العدائية، وتراجع الولايات المتحدة، واهتزاز النظام العربي الناتج عن الثورات العربية المجيدة. وعلى القيادة الفلسطينية أن تتلمس طريقها، على الرغم من المخاطر والضغوط المتصاعدة في هذه الفترة الحرجة، فيما يخص العلاقة المعقدة بين توجهها إلى الأمم المتحدة من جهة، وإتمام إجراءات المصالحة، والاستعداد لاحتمال استفزازات إسرائيلية ولتعبئة شعبية لمواجهتها. من جهة ثالثة، يتوقف اعتماد أي خيار على درجة الجهود المبذولة لإقناع الدول الصديقة والدول المحايدة وتعبئة الرأي العام العالمي، وعلى تماسك ومصداقية المواقف التي نعلن عنها، وعلى تقدير الجهاز الدبلوماسي الفلسطيني لمن يمكن إقناعه في هذه المرحلة أو تلك. وفي هذا المجال، لا توجد أبواب مقفلة كقدر محتوم، أو من جراء قواعد قانونية منزلة، كالجزم بأنه من المستحيل تخطي الفيتو الأميركي، في حال حدوثه، من قبل الجمعية العامة فيما يتعلق بطلب العضوية الفلسطيني. إن الدول هي التي تطور، لا بل تصنع الإجراءات القانونية في الأمم المتحدة، وفقاً لمصالحها، والقيم التي تؤمن بها مجتمعاتها، والمساومات التي تتفاوض حولها.
انطلاقاً من هذه الاعتبارات، وأيضاً لإثبات جدية مواقفنا فيما يخص شروط العودة إلى طاولة المفاوضات، وللتعبير عن فقدان ثقتنا بالرعاية الأميركية للتسوية الفلسطينية-الإسرائيلية، ولجعل حلول شهر أيلول استحقاقاً حقيقياً، وشريطةَ العمل على تأمين المساندة الفعلية من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، أعتقد أنه من الضروري وضع الدول العظمى والدول المؤثرة أمام مسؤولياتها السياسية والدبلوماسية، من خلال التقدم رسمياً بطلب عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، أي مروراً بمجلس الأمن، اعتماداً على الخيار 2 أعلاه. أما الخيارات الأخرى، فأقترح عدم التعامل معها إلا حين التئام مجلس الأمن للتصويت الفعلي على الطلب الفلسطيني، وتفضيل الخيارات (ليس فقط المذكورة هنا) التي تتطلب التوجه أولاً نحو مجلس الأمن. ومن الضروري أيضاً الانتباه إلى أنه، حتى لو كان الإنجاز عظيماً في الأمم المتحدة وينطوي على تغيير المسار، فإنه لن يعدو كونه خطوة متواضعة على الطريق الطويل نحو إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني.
نشر في صحيفة «الأيام»، 10/07/2011