أيار 2011
(الدكتور ممدوح العكر طبيب جراح وهو المفوّض العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في فلسطين، أو ما يدعى بـ "ديوان المظالم")
أعزائي الخريجات والخريجين، وأهالي الخريجين والخريجات، وهيئة تدريس وإدارة ومجلس أمناء المدرسة،
بقدر ما اشعر بعظيم الشرف ان تتاح لي فرصة مخاطبتكم في مناسبة عزيزة كهذه مفعمة بالمشاعر والآمال والتطلعات ، أجد نفسي أخاطب فيكم شابات و شبان فلسطين ، فينتابني ،لا أخفيكم ، شعور برهبة من نوع خاص مصدرها شعور بمسؤولية اللحظة ومسؤولية الكلمة . فهذه الأيام الحاسمة من عمركم ، أيام تخرجكم ، تتقاطع ، أو بالأحرى تتلاقى مع أيام حاسمة من عمر شعبنا و قضيتنا . فتماماً كما هو الأفق ينفتح الآن رحباً أمامكم تحلقون به كطيور السنونو في بلادنا نحو مستقبل تصنعونه بأيديكم ، فإن الأفق ينفتح في ذات الوقت أمام شعبنا و قضيتنا لاستعادة زمام المبادرة لتغيير أو تصويب مسار دام عشرين عاماً على أمل ، أو ربما وهم بأن نرى النور في آخر نفق المفاوضات ، نور الاستقلال والحرية وحق تقرير المصير ، فإذا بنا نكتشف أننا إنما دخلنا في نفق مظلم ، ومسدود ، تحرسه إدارة أمريكية إثر أخرى ، وترعى صيانته رباعية دولية يتسلى بها طوني بلير .
وهذا الشعور بمسؤولية اللحظة ومسؤولية الكلمة تتضاعف وطأته عندما يقف المرء يخاطب جيلاً من الشباب أصبح يوشك أن يمسك بناصية الأمور في طول الوطن العربي وعرضه.
أقف أمامكم إذاً، كوكبةً من شباب فلسطين ، في لحظة يوشك فيها التاريخ أن ينعطف انعطافة طال توقنا إليها ، فيغمرني أيضاً شعور طاغ لا يمكن وصفه إلا بأنه الشعور بعودة الروح ، أجل عودة الروح . فأنا، يا أعزائي ، أنتمي إلى جيل شهد الكثير من الهزائم والإحباطات ، ومن تكسر العديد من الآمال .
بصراحة أقولها لكم إن جيلنا كاد يفقد ألأمل بالخلاص من هذا الواقع المحبط ، بل وكدنا نفقد الثقة بأنفسنا وبقدرتنا على الفعل والتغيير . أصبح الواقع الراهن وكأنه قدر لا فكاك منه ، وكأن ليس من خيارات أخرى أمامنا ولا من بدائل .
وفجأة ، إذا بكل هذا الإحباط ، وبكل ما بدا على السطح يأساً ، يتفجر طاقةً مذهلةً هزت أركان أنظمة الاستبداد والقمع والفساد ، فأخذ البعض منها يتهاوى ، وبعض آخر منها يترنح ، وبعض ثالث ينتظر ... فجأةً تنفتح أفاق التغيير من أوسع أبوابها بعد طول انغلاق ... من هنا بالذات منبع هذا الشعور العارم بعودة الروح .
لا ليس صحيحاً وصف ما جرى ويجري بأنه تسونامي ، فموجات التسونامي ، كما انتم بالذات تعرفون ، تجلب الخراب والدمار . و ما يجري إنما هو هدم لسدود وأسوار ، كانت تقف حائلاً دون تدفق دماء الحياة والتجدد .... إنه الربيع العربي يزهر من جديد.
صحيح أن من المبكر أن يضع المرء تصوراً متكاملاً أو استخلاصات نهائية لما يحمله هذا الربيع العربي من أفاق للتغيير ، خاصة عندما ندرك حجم التحديات والمخاطر التي تواجه ربيع التغيير هذا ، تماماً كما واجهت تحولات مشابهة عرفها تاريخ للبشرية ليس بالبعيد ، إلا أننا نستطيع الإشارة إلى ملاحظات أو إستخلاصات ثلاث أو أربع على الأقل:
أولاً : إن جيل الشباب ، جيلكم ، قد نجح وتمكن من كسر حاجز الخوف وحاجز الصمت . وفقط مع كسر هذه الحواجز تنفتح آفاق التغيير على مصاريعها وتكتسب طاقةً وزخماً . وإذا ما أحسن توجيه بوصلة هذه الطاقة وضبط إيقاع تدفقها ، تصبح أنظمة القمع والاستبداد ، كما يصبح الاحتلال أيضاً نموراً من ورق .
ثانياً : إن ثورة الاتصالات والمعلوماتية ، وخاصةً شبكات التواصل الاجتماعي Face book و Twitter لم تعد مجرد فضاءلامتناه من المعلومات والمعرفة المتاحة للجميع ، ولا مجرد عوالم افتراضية تمتلك قدرة فائقة السرعة على التشبيك والتواصل ما بين الشباب في شتى أرجاء العالم... ، بل اصبحت أيضاً أداةً فاعلةً من أدوات التغيير ذاته بما لها من قدرة على التنظيم والتحشيد Mobilisation
ثالثاً : ترسخت حقيقة هامة أن ليس بالضرورة أن يكون العنف الوسيلة الوحيدة ، أو الوسيلة التي لا مفر منها لإنجاز التغيير المطلوب . فقد أثبت الحراك الشبابي في تونس ومصر واليمن ، وكما أثبتت تجربة انتفاضتنا الأولى قبل ذلك ، إن نزول ألاف مؤلفة من الشابات والشبان ، ومن الجماهير بشكل عام ، إلى الشوارع والساحات والميادين ، بشكل منظم ، ومنضبط ، وصبور طويل النفس ، وتحت شعارات ومطالب مدروسة ومحددة....تستطيع أن تتحدى أعتى أجهزة القمع البوليسية وأن تشل حركتها وصولاً إلى إسقاط وتغيير الأنظمة القائمة عليها .
رابعاً : مع وجود قواسم مشتركة عديدة مابين الثورات العربية المختلفة سواء في مطالبها بالحرية والكرامة والعدالة ، أو في الوسائل والأدوات المختلفة التي تستخدمها ، إلا أنه لا يمكن نسخ ولا استنساخ هذه التجارب الثورية . نعم هناك مجال واسع لتبادل الخبرة والاستفادة من الدروس والعبر . لكن ، تبقى لكل ثورة ولكل انتفاضة ظروفها وخصوصياتها ، كما أن لها إبداعاتها أيضا ... لم يناد حراكنا الشبابي مثلاً بإسقاط النظام، ربما لأنه لا يوجد لدينا نظام نسقطه سوى نظام الاحتلال
ليس من قبيل الإدعاء ولا المبالغة إذا ما قلنا بأن استلهام الانتفاضة الفلسطينية الأولى كان حاضراً منذ البدايات الأولى للحراك الشبابي العربي ، خاصة في تونس ومصر . وليس من قبيل المجاملة إذا ما قلت لكم أنكم ، شابات وشبان مدارس الفرندز ، كان لكم حضور ملموس في الحراك الشبابي والذي ساهم إسهاما واضحاً في الضغط من اجل إنجاز الخطوة الأولى نحو المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام . وفي اعتقادي إن هناك ضرورةً وواجباً لأن نعمل يومياً على حماية هذه الخطوة والمضي بها قدماً إلى حيز التطبيق الفعلي، نصاً... وروحاً . وعلى رأس
أولويات ذلك ضرورة إنهاء ملف الاعتقالات بالمبادرة إلى إطلاق سراح كافة المعتقلين دون تلكؤ أو مماطلة ، جنباً إلى جنب مع إنهاء ملف المسح الأمني الذي هو صفة أساسية من صفات الأنظمة البوليسية التي لا يريد أحد منا ، أن يكون لها مكان في فلسطيناً .
أردت أن أقول إذا كان للحراك الشبابي الفلسطيني من خصوصية فإنها تتجلى أساساً في الانخراط في الجهد الوطني المركز لتغيير المسار... باتجاه مسار آخر أجدى وأضمن للوصول
إلى إنهاء الاحتلال، وإنجاز الاستقلال، وحق تقرير المصير، والعودة.
أعزائي الخريجات ، أعزائي الخريجين ، الحضور الكريم ، كل هذا كان حديثاً عن الفضاء العام ، والآفاق الواسعة التي تتفتح إمام قضيتنا الوطنية مع هذا الربيع العربي الواعد ، والذي يتلاقى ، كما ذكرت ، مع أفق واسع خاص بكم ينفتح أمامكم الآن في يوم تخرجكم ، إلا وهو أفق أو فضاء الجامعة والحياة الجامعية
ليس سراً أن التعليم العالي الفلسطيني يعاني من أزمة مستحكمة متعددة المستويات والجوانب. بل إن هذه الأزمة تطال كل مراحل التعليم في بلادنا بدءاً من مرحلة التعليم المبكر، مروراً بمراحل التعليم الإلزامي، وانتهاءً بالتعليم العالي بشقيه التقني والجامعي. فالتعليم العالي يعاني من مشكلة مزمنة تتعلق بالتمويل، وتدني جودته بشكل مقلق، وهناك إحجام عن الالتحاق بالكليات التقنية، وتعاني جامعاتنا من شبه غياب للبحث العلمي، بالإضافة إلى هجرة للعقول وعدم القدرة على اجتذاب الكفاءات الجديدة. من واجبنا تجاهكم ، سواء الحكومة أو المجتمع المدني أو القطاع الخاص أن نعمل حثيثاً على إيجاد حلول بعيدة المدى لإخراج التعليم العالي ، والتعليم عموماً من هذه الأزمات حتى نوفر لكم بيئة جامعية ومستوى لائقاً من التعليم العالي يتناسب مع المهمات الطموحة والآمال العريضة التي نعقدها عليكم والدور الكبير الذي ينتظركم مع عودة الروح في هذا الربيع العربي .
- قسم كبير منكم سيلتحق بجامعات الوطن ومعاهده التقنية ، وتستطيعون ان تلعبوا دوراً فاعلاً ضمن جهد وطني مكثف لإنقاذ مسيرة التعليم العالي في بلدنا :
* تستطيعون، معنا ممارسة ضغط متواصل على الحكومة من أجل إيفائها بالتزاماتها المالية المستحقة من جهة، وزيادة الدعم المالي للتعليم العالي من جهة أخرى. فالتعليم، إلى جانب الصحة والشؤون الاجتماعية يجب أن تعطى الأولوية في الميزانية العامة بدلاً من الأمن. فما معنى كل هذا الإنفاق على الأمن الوطني، والأمن الوقائي، والمخابرات، وحرس الرئاسة، والقوات الخاصة وكل المسميات.
الأخرى في الوقت الذي تنوء فيه جامعاتنا و معاهدنا ، تحت وطأة أزماتها المالية .. ؟! ولأنه في مقابل كل حق ، هناك واجب وهناك مسؤولية ، فإن علينا ، طلبة وأهالي ، مسؤولية الإيفاء أيضاً بالالتزامات المالية تجاه جامعاتنا ومعاهدنا ، خاصةً مع الارتفاع المتزايد في كلفة التعليم العالي .
* تستطيعون أن تبادروا إلى الاهتمام بما هو أحد أهم أركان الجامعة ، ألا وهو البحث العلمي . ونستطيع في المجتمع المدني أن نعمل معكم من أجل زيادة النسبة المخصصة للبحث العلمي في جامعاتنا ، فهي نسبة ضئيلة مخجلة . كما لا بد من حث القطاع الخاص بأن يشكل دعم البحث العلمي في جامعاتنا التزاماً ثابتاً منه كجزء لا يتجزأ من مسؤوليته الاجتماعية .
* وتستطيعون أيضا الحث على الإسراع في عقد مؤتمر ، أو حلقات دراسية متخصصة للبحث في أسباب تراجع مستوى التعليم العالي في جامعاتنا ، والتعليم الفلسطيني عموماً ، وكيفية وآليات معالجة ذلك . وعلينا أن نتذكر هنا أن إصلاح نظم التعليم كان الخطوة الأساسية التي أدت إلى طفرة التقدم التي شهدتها دول كالهند وايرلندا والبرازيل على سبيل المثال .
* كما تستطيعون أن تكونوا المبادرين إلى تغيير النظرة النمطية التقليدية للتعليم التقني ، بأن تستكشفوا بأنفسكم الإمكانيات الكبيرة التي يوفرها التعليم التقني لإكتساب المهارات والمهن التي من شأنها تأمين مستقبل مهني مضمون وناجح استنادا إلى حاجات سوق العمل المتزايدة باستمرار
أعزائي الخريجات والخريجين ، على أن هناك دوراً هاماً آخر ينتظركم ، سواء كنتم في جامعات ومعاهد الوطن أو خارجه ، وهو أن تكونوا بمثابة السفراء الحقيقيين لفلسطين ، السفراء الحقيقيين لفلسطين في كل أرجاء العالم من خلال التشبيك والتواصل والتفاعل مع شباب العالم ومن خلال الإنترنت والفيس بوك لكسب المزيد من تأييد شعوبهم لقضيتنا ضمن حملة المقاطعة لإسرائيل ، وسحب الاستثمارات منها وصولاً إلى فرض العقوبات عليها ومحاكمة قادتها على جرائم الحرب التي يرتكبونها
* ختاماً ، أرجو أن تسمحوا لي بملاحظة أخيرة ... إذا كنا نشهد تفجر الثورات والانتفاضات العربية على أيدي جيل الشباب ، الذي حمل إلينا كل هذا الربيع الواعد بعد طول انتظار ، وأنتم هنا في فلسطين جزء لا يتجزأ من كل هذا الحراك بالتأكيد ، فإن هذا لا يعني على الإطلاق إن جيلنا قد تنحى جانباً ، ولم يعد له من دور . ما هكذا دورة الحياة ، وما هكذا تداول الأدوار بين الأجيال . نعم علينا أن نفسح لكم الطريق ولا نزاحمكم . نعم علينا أن نكف عن الـ patronisation . فأنتم زهور هذا الربيع ووروده ، ونحن كما أشجار الحديقة ، تظللها ... وتحميها ... وتمنحها شموخ الصمود .
شكراً