قبل بضعة عقود كان يكفي، في اجابة على هذا السؤال، ان نقول أننا نحتاج الى يسار يساري. ربما لأن واقع اليسار في العالم أجمع آنذاك، من حيث التنظيم والحراك والعمل والايديولوجيا، كان اكثر وضوحا بما لا يقاس عما هو عليه اليوم. وبطبيعة الحال، كان ذلك نتاج وجود قطب يساري عالمي منافس وفاعل –الاتحاد السوفييتي الاسبق ومنظومته الاشتراكية- والذي تقلّد يسارنا نهجه ومساره الفكري بحرفية تامة، في حينه، بحيث باتت المدرسة الفكرية-التنظيرية السوفيتيه، ودار التقدم "رادوغا" في موسكو هي المرجعية الأساس، التي ولغرابة الأمر، لم تحتج الى اعادة توطين، أو تحليل أو نقّد أو مراجعة، مما نتج عنه شبه انهيار مدّوي ليسارنا العربي عموما كتوابع للزلزال الذي ألم بالواقع السوفييتي-"الاشتراكي". العلاقة في مجملها كانت مؤسسة على التبعيّة (حتى فيما يخص قضايانا المحلية)، تشبه الى حد كبير منطق المركز والهوامش، والذي هو في جوهره نقيض لمبدأ الاشتراكية من الأساس.
هذه المقدمة هي فقط بهدف الاشارة الى اننا، فيما مضى، في عصر القطبين المتصارعين، أي منذ ربع قرن تقريبا، كنا الى حد ما ندرك كنه اليسار قيد البحث، بل وأيضا تراءى لنا اننا نرى الحقيقة ساطعة، واضحة وضوح الشمس، بحيث نتسائل بدهشة –صادقة- كيف يعجز الآخرون عن رؤيتها. والسؤال فعلا: هل كان اليسار يساريا، على علم وعلى ثقة آنذاك، ام أننا كنا فقط ندور في حلقات مغلقة من الوهم والحلم الجميل، بعيدين كل البعد عن التحليل العلمي الجدلي (اللازمة المكرورة في تنظير "اليساريين" أينما كانوا) فجاء الانهيار عاصفا ،مدوّيا، وصادما؟
الأحزاب الفلسطينية اليوم، بمن فيها من قليل اليسار، متشابهة الى درجة يصعب تصديقها. تتسابق الى كسب المواطن/ة، كناخب/ة غالبا عبر سلوك براغماتي مداهن، وعبر اطلاق ما اتفق من الشعارات الفضفاضة، والتي يعاد تكرارها مع كل حملة انتخابية، في دليل دامغ على ان أيا منها لم يتم العمل عليه وبالتالي يصلح شعارا خالدا، للاستهلاك، في كل الحملات.
لا مؤشر واضح على هوية يسار من يمين! لا في الخطاب السياسي ولا في التوجه والسلوك الاجتماعي. والصحوة الدينية المتشددة –التي تقوم على طقوس شكلية بالاساس- طالت الجميع! واذا ما خطر لنا ان نلقي نظرة سريعة على أي من زوايا الوطن –مع شبه استثناء لمدينة رام الله ربما؟- هل يمكن لنا ان نلمس، ولو استعنا بكافة قرون الاستشعار الممكنة، أي مؤشر على التنّوع والتعددية، التي يلهج بها سياسيونا ليل صباح؟
لقد كانت منظمة التحرير، على كل اشكالياتها وأخطائها، منارة للتنوع والاختلاف الصحي. والتنوّع والتنافس هما الدافع الأساس نحو التقدم والتطور. وقد يقول البعض أن التنافس اليوم على أشده، بدليل ما يحدث في الساحة الفلسطينية، وبدليل أن شعارات النضال نحو التحرر الوطني باتت في المرتبة الثانية بعد الدعوة اللحوح الى التصالح الوطني والوحدة الفصائلية! وهو فعلا صراع تناحري ،لكن على المكاسب والحصص، في حين ان كافة الخصوم، بمن فيهم وسطاء المصالحة من اليسار، متشابهون حد القلق.
وفي هذا السياق، وعود الى بدء، ومع تنامي الأهمية البالغة للتنوّع الحقيقي بغية النمو الصحي، فأي يسار فعليا نريد؟ وأي يسار نستطيع أن نصفه بقناعة وارتياح باليساري؟
أولا: وقبل كل شيء لا بد ليسار نوعّي ان ينسجم من حيث النظرية والتطبيق، التنظير والفعل، القول ونهج السلوك. فالسلوك الذاتي للأفراد – خصوصا من هم في مواقع أمامية لافتة- ان لم يتماهى فعلا مع ما ينّظر له من: احترام الحقوق الفردية، رفض قاطع، غير مهادن، لكافة أشكال التمييز والاقصاء، المساواة الكاملة بين البشر بغض النظر عن جنسهم ولونهم وأصولهم الاجتماعية-الاقتصادية..الخ وتبنّي قضايا المهمشين/ات فعلا وليس كشعار فقط. ولا يجدي ذلك ان نتج عن عدد محدود من "نخبة" اليسار، بل لن يجدي في واقع الحال الا اذا أصبح نهجا عاما لدي كافة الكوادر داخل الاحزاب والدوائر المحيطة بها. والا، فكيف نترجم نحن المواطنون الشعار الكبير والملازم لليسار حول المساواة والعدالية الاجتماعية في حين ان النساء غائبات، الى حد كبير، عن أي أدوار فعلية داخل أطر تنظيمات اليسار؟ وفي حين أن رجالات اليسار يقصون نسائهم عن الحياة العامة كما ويتعاملون معهن، على المستوى الشخصي، بفوقية وذكورية تقليدية لا تختلف بحال من الأحوال عن سلوك أي "آخر" يوصف بال: "رجعية" و "التخلف" و " التزّمت" ؟ وهناك الكثير مما يجب أن يقال في هذا السياق، لن يتسع له عمودنا الصغير هذا الآن.
ثانيا: لقد كان النظام-التنظيم الفعّال أهم سمة لليسار، أينما تواجد، وللشيوعيين على وجهه التحديد، في حين باتت الفوضى و "حارة كل مين ايده اله" هي واقع الحال المرير لأحزابنا اليسارية المعاصرة. وقد يبرر البعض هذه الفوضى بالميل نحو "الديمقراطية" وحق الجميع بالقول والفعل كيفما يرتأون، وذلك فكاكا وفك ارتباط مع ما كان يصطلح عليه ب "المركزية الديمقراطية" وتفرد رأس الهرم بصناعة القرار وما الى ذلك... ولكن يحضرنا السؤال هنا، في سياق هذا التبرير: هل شكل التنظيم الحديث، والقائم على حالة واضحة من الفوضى –بحيث لا يدرك معظم أعضاء التنظيمات ان كانوا ما يزالوا أعضاءا في أحزابهم أم لا!- ساهم في دمقرططة هذه الأحزاب، ووفر فعلا الفرص لغير الصف الأول بالمشاركة الفاعلة في صناعة القرار؟ وهل ما نادي وينادي به الأعضاء/العضوات في المؤتمرات والاجتماعات الموّسعة والضيقة يؤخذ على محمل الجد؟ وهل يوجد في سياق هذا "الانفتاح" فهم واضح لاعضاء هذه الاحزاب حول برامجها ومواقفها السياسية والاجتماعية؟ حيث يلفت انتباهنا بشدة تمايز واختلاف وأحيانا تناقض تصريحات الأعضاء من نفس الحزب، والذين في غالب الأحيان ممن يتبوأون المراكز العليا في تنظيماتهم!!
ان التنظيم- النظام الفعّال لسمة قوة لدى الأحزاب، ولا يشكل نقيضا أو حاجزا أمام الديمقراطية الحقيقية – لا الشكلية كما لدى الليبراليين-. لقد امتازت الاحزاب المؤثرة والقوية في تاريخ البشرية أجمع بالنظام الشديد الذي يكاد يكون حديديا، ولم تؤدي الفوضى بأي كان الا الى التهلكة والانقراض!
ثالثا: الواقعية. والتي أيضا كانت احدى صفات بعض اليساريين المميزة ، فيما مضى. والواقعية في البرامج والتنظير السياسي، كذلك في اقتراح أدوات فعالة ومجدية في النضال ضد الاحتلال، لا تعني ولا تقارب التفريط بالحقوق بأي شكل أو حال، بل على العكس تماما. حيث ان الادعاءات الزائفة وتقلد قوة وهمية واطلاق "الفوتيشات" والمزايدات لا تقدم لنا سوى الوهم وتمنح عدونا ترف الوقت للتخطيط الواقعي –الأشد مكرا وفتكا- وبالتالي حصد الانجازات الفعلية على الأرض والذي يوقع أشد الضرر فينا وفي قضيتنا الوطنية والانسانية. لقد تبنى اليسار دوما الاتجاه "العلمي الجدلي" ولا نملك اليوم سوى أن نتسائل: أي نحن من المنطق العلمي، المبني عل التحليل والمراجعة وبالتالي اجتناب الوقوع في نفس المصائد والاخطاء؟ ألا تقاس الأمور بنتائجها؟ وهل يقول العلم أن الأدوات أكثر قدسية من الأهداف، حتى لو أدت ما أدت اليه من مصائب متلاحقة؟ هذا بحد ذاته يحتاج الى مقال منفرد، بل ربما للكثير والكثير من المقالات!
رابعا: ترتيب الأولويات في سياق منطقي ومنظّم. وهذا يسير بالتوازي تماما مع اعادة بناء تنظيم متماسك وفعّال، ومع طرح أهداف سياسية واجتماعية محددة – لا شعاراتية فضفاضة وضبابية- واعتماد أدوات نضالية واقعية، مجدية وغير مقدسة! والأولويات تحتاج الى تركيز ومتابعة تراكمية، حتى يمكن الوصول الى شيء من الانجاز. ولا بد من تخطيط استراتيجي منهجي شبه ثابت، أي بمعنى انه قد تطرأ عليه بعض التعديلات، ولكن لا تنسفه من الأساس ليعاد البدء من نقطة الصفر. (وليس المقصود هنا تخطيط استراتيجي كما لدى المنظمات الغير حكومية!).
خامسا: على الرغم من أننا نرزح تحت طائلة احتلال غاشم مما يضع برنامجنا الوطني السياسي في الصدارة وقبل كل شيء، الا أننا نرفض تأجيل قضايانا وهمومنا الاجتماعية –الثقافية الى حين ما بعد التحرر. ان تجارب الكثير من الشعوب قبلنا تنذر بخطورة هذا المسار. فالوطن ليس علما ونشيد قومي وحدود وعاصمة ..فقط، بل مكان نمارس فيه المواطنة بشكل صحي وتحفظ فيه انسانيتنا وكرامتنا.. مكان ننتمي اليه، لا نعيش فيه ونحمل جواز سفره فقط. لذا يقع على عاتق كل قوى التحرر التقدمية وعلى رأسها اليسار العمل بجدية ومنهاجية على تطوير الثقافة بما ينسجم وروح مبدأي العدالة والمساواة الغير قابلين للمساومة أو التنازل. وهذا بحد ذاته بأمّس الحاجة الى برامج حقيقية، بعيدة عن الشعارات الفارغة، يتم العمل عليها بثبات واصرار وطول نفس وجرأة.
سادسا: تبني قضايا الفقراء وتمثيلهم فعلا وليس "مناصرتهم" أو "الانحياز" اليهم. هذا يتطلب النزول عن الابراج العاجية والتواصل فعلا مع الناس على الأرض (كما في عصر الستينيات والسبعينيات الذهبي!)، وربما هنا لا داعي للبذخ المفرط و "البودي جاردس" وال" في أي بي" والى كل ما من شأنه تغريب هذه الحركات عن جمهورها الحقيقي: الفقراء والمهمشين/ات.
هناك الكثير مما يحتاج الى الاشارة هنا، اللا أن هذا الحيز الصغير لن يتسع له. ولكن في الختام تجدر الالتفاتة الى أن اليسار الفلسطيني بات جزءا من السلطة الوطنية وجزءا من البرلمان مما يوجب عليه الانتباه الجدي الى بعض القضايا المركزية التي تسهم مباشرة في صوغ الثقافة والذهنية الفلسطينية في مختلف القضايا، كالتعليم مثلا، الذي يقوم بالاساس على نهج التلقين- لا على التحليل العلمي- والمشاركة الايجابية الفاعلة. لو عمد اليسار الى تبني قضية التعليم وحدها فقط، مثلا، بجدية كأولوية أولى بهدف انتاج أجيالا واعية، قادرة على التحليل والتفكير المنطقي والمشاركة الايجابية، لحقق وبكل تأكيد، انجازا وطنيا كبيرا، يقض مضجع اسرائل أكثر بما لا يقاس من كل الصواريخ وسيل التصريحات و التهديدات الذي لا ينقطع ليلا نهارا. فجوهر صراعنا الحقيقي مع اسرائيل حضاري –معرفي وليس عسكري.
الأيام، أيار/مايو2009
اليسار الفلسطيني الذي نحتاج
2/2
استكمالا لمقالي السابق، والذي صدر في نفس هذا العامود منذ ما يقرب الشهر من الآن، أعود لمتابعة نفس الموضوع، نظرا لأهميته البالغة، خصوصا في ظل الظروف الراهنة وفي سياق حالة من الجزر الثوري، على صعيد العالم ككل، ولدينا هنا –تحت الاحتلال المباشر- بشكل خاص. وفي سياق وطني شديد الخطورة، لا لحالة الانقسام –الآخذة في التصاعد- فقط، والتي قد يتمخض عنها ما قد لا تحمد عقباه من الأهوال، بل أيضا لعامل الوقت الحاسم. الوقت الذي يتسرب منا في ساعة رملية يقلبها اعداؤنا ويعملون بمثابرة ونظام، لا يثنيهم ولا يلهيهم أي أحداث او معطيات سواء داخلية او خارجية. ودعني أقول هنا ان لآزمة "حرارة الايمان بالحق –وحدها- "كفيلة بالحفاظ عليه"، لا يشبهها سوى "أسبرين" مع كأس ماء لتسكين خفيف للوجع، لا يتمخض عنه أي علاج حقيقي. وتسرب الرمل السريع من الساعة المقلوبة ليس في صالحنا، طالما نمعن في الخدر والتأمل، ونعقد المؤتمرات وورش العمل والتخطيط "الاستراتيجي" والمزيد المزيد منه (ولا نرضى الا بتسميته:"تخطيط استراتيجي" نظرا لفعالية وقع هذه المصطلحات الرنانة علينا!)، ولا نخرج أبدا من دائرة "العصف الذهني" المرهقة، المترفة، وذات اللاجدوى في كثير من الأحيان.
وفي سباق الزمن أيضا يعمل الاسلام السياسي بلا كلل، وتبرز بعض أجنحته الأكثر راديكالية وتشددا، وتمد يدها غالبا لتناصر الفقراء –السواد الأعظم من شعوبنا في المنطقة- الذين تمعن آلة الامبريالية في طحنهم والذين تخلّت عنهم غالبية الحركات والتيارات اليسارية، التي أوهمت نفسها بالخلاص عبر "الوسطية" بعد تجربة الاشتراكية السابقة، المريرة.
قد يكون اليوم هو اللحظة التاريخية الأكثر الحاحا والأكثر جاهزية لانبعاث اليسار من جديد. لانبعاث فكر بركائز أخلاقية وقيمّية ثابته تجاة العدالة والمساواة والحقوق الغير قابلة للتساوم، لكن برؤيا وأفق وآليات متجددة وجدلية.
وقد صار لليساريون/ات اليوم ان يشعروا بالفخر لأن أزمة الرأسمالية العالمية الراهنة استدعت نفض الغبار عن "ماركس" واعادته بقوة وجدارة الى طاولة النقاش. فالرأسمالية فعلا تختنق بأزماتها الناجمه عن الجشع اللامتناهي، صفتها الأساس لنموها، كذلك مقتلها.
لماذا الخجل لدى بعض التيارات "اليسارية" أو حتى المحسوبة على اليسار في عالمنا العربي؟ وكيف تطلق على نفسها هذه الصفة ثم تعود لتتملص منها –واحيانا لتسهب في التاكيد عليها- وفقا للسياق السياسي، أو الاجتماعي، أو المكاني ... الذي تجد نفسها فيه في لحظة ما؟
ان للاتجاه الواضح اهمية بالغة في تحديد المسار الصحيح وفي اكتساب المصداقية أيضا، وقبل كل شيء
هناك بعض التيارات، التي في غالبها تمخضت عن قوى يسارية ثم انفصلت عنها، باتت ترفض ان تحدد وجهتها، وصارت تميل لتعريفات أكثر "اتساعا"، وأقل تحديدا وبالتالي اقل الزاما. فحين تكون المرجعيات فضفاضة، تضعف القدرة على المتابعة الجادة وبالتالي المحاسبة. فاطلاق صفة "الديمقراطية" و "التقدمية" و "الانسانية" بدلا من اليسارية يترك الباب مواربا، بل في حقيقة الامر، مفتوحا على اتساعه. فغالبية التيارات المعاصرة في العالم تسمي نفسها "ديمقراطية" بل وتقدمية ايضا، فالمفهوم عريض ويتسع للجميع!! ان الاحزاب الأكثر ليبرالية في العالم ، والتي تقوم بالاساس على نهج استغلال واستنزاف الآخرين، تسمي نفسها ب "ديمقراطية" و "انسانية" وما شئتم من المصطلحات "اللطيفة" الشائعة هذه الايام. هناك أيضا من يصرون على "وسطيتهم" في حين انهم ديمقراطيون وتقدميون ويناصرون الفقراء ويعنون بقضية "المرأة" و "المهمشين/ات". ولكن كيف بالضبط قدم في الجنة وأخرى في النار؟ وكيف تتأتى الوسطية هنا عند نقاش باب الحقوق والعدالة الطبقية والجندرية والاثنية ...الخ؟ كيف هو الموقف البين بين؟ والى أي مصائب، في قطار سريع، يأخذنا هذا البين بين؟؟
أعود هنا الى سطور الحلقة الأولى من هذا المقال، لأقول ان لا مكان وسط بين يسار ويمين، وأن مقولة بلى أخف من بلى قد يلقي احيانا بطوق النجاة! لا فرق بين تمييز خفيف او شديد. ولا فرق –من حيث الجوهر- بين صفعة ناعمة او أخرى تترك أصابع اليد على الوجه! في حين ان الفرق بيّن وجلي بين اباحة ضرب وتأديب الآخرين –الأضعف- وبين حظر ذلك!
هذا الضياع والتشتت، والتوجه شديد البراغماتية، التي قد تنحو أحيانا نحو الانتهازية السياسية –لدى البعض- الذي ومع كل أسف يدل على قصر النظر في السعي الحثيث لتحقيق بعض المكتسبات التكتيكية هنا وهناك، يتسبب في الكثير من الارباك ولا يتيح اي فرص حقيقية بتشكيل أي وحدة ذات ديمومة لليسار. لقد تناهى الى مسامعنا مرارا وتكرارا عن تشكيل ائتلافات وتحالفات وجبهات يسارية بين مختلف أطراف قوى اليسار. والغريب في الأمر، ان شكل وتركيبة تلك التحالفات كان يتغير ويتبدل بشكل سريع وعجيب. وربما اوضح دليل على ذلك هي الجامعات الفلسطينية وانتخابات مجالس طلبتها. لقد تمنينا لو ان حزبين يساريين فقط اعتمدا نفس التحالفات في كل المواقع!
لقد تبيّن أن بعض التحالفات تمت مع اتجاهات تتصف باليمينية المفرطة (كحد ادنى)، مما يستدعي السؤال مجددا: ما الذي يعني ان يكون الحزب الفلاني أو الجبهة الفلانية يساريا؟ وما الذي يترتب على هذه اليسارية في واقع الحال؟ وأي مصير بانتظارنا اذا كان كل شيء معرضا ل "الكمبرومايس"؟
وهنا وفي هذا السياق يجدر الاشارة الى ان مكمن القوة الأساس الذي اتصف به اليساريون/ات في ما مضى من الزمان، أي أيام عصرهم الفضي (الذي لم يكن ذهبيا قط!)، كان بالاساس تفوقهم المعرفي والحضاري. لقد كان التثقيف حجر أساس في عمل التنظيمات اليسارية، وكان الاعتماد بالتالي على قوة التنظير كبيرا. وقوة التنظير لم تكن ترتكز بالاساس على الشعارات الرنانة (والتي في حقيقة الأمر كانت معتمدة بقوة لدى بعض أطراف اليسار، حتى آنذاك) بل على الجدل المعرفي والمحاججة المنطقية، وفي أساسها الوعي، العلم بالشيء-أي المعرفة المؤسسة- والقدرة على التحليل والابتكار والتفكير المنطقي المنهجي المثمر. أما الحال الآن فمثير للخيبة والشفقة على حد سواء. وكيف نحلم بائتلافات ووحدة في حين ان منهج التفكير اعتباطي، لاتراكمي وقصير المدى الى حد الترويع؟ وعن أي انتخابات وتحالفات تكتيكية اذا ما كان الأفق محدودا ومسدودا الى هذا الحد؟ ألا يدرك اليساريون البرغماتيون أن تحالفاتهم التكتيكية مع اليمين المتطرف ومع التيارات الدينية السياسية المتشددة أحيانا، قد يوقع بهم أشد الضرر في المستقبل. وهل لهم مكان أو "للوسطية" مكان اذا ما انتصرت الأيديولوجيا السلفية المتشددة؟ ألا توجد تجارب بشرية سابقة تؤكد استحالة هذه التحالفات، وفي منطقة ما يسمى ب"الشرق الاوسط" تحديدا؟ كما ان المداهنة فيما يتعلق بالسياق الديني لا تغني ولا تسمن من جوع، فالجمهور لن يصدق هذا التحول الدراماتيكي، ولن ينتج عن ذلك سوى المزيد من الخسارات على صعيد المصداقية!
واخيرا، لماذا لا يتبنى اليسار قضايا محلية محددة ومرّكزة ليعمل عليها ويراكم فيها ويحقق بعض الانجازات التي قد تلطف من واقعنا المرير قليلا وتعيده الى قلب الخارطة السياسية الفاعلة من جديد؟ هذا بدلا من مجرد اطلاق الشعارات هنا وهناك، أو التوسط بين التيارين الكبيرين، أو الصراع على الفتات.
هناك مثلا قضية التعليم والتي رغم قصور الالتفاتة لها في ظل الظروف السياسية العصيبة الا انها تبقى حجر الأساس في تطورنا وتمكين قدراتنا في صراعنا ومواجهاتنا مع عدو عالي التعليم وسبّاق في الركب الحضاري الصاعد. ان تعليمنا يقوم على التلقين لا التحليل والابداع، كما ويقوم على اعادة اجترار الثقافة الرجعية والتمييزية. كيف نتهيأ الى ساحة معركة –معارك- حاسمة مع أولئك الأكثر تعليما في العالم، لا كمّا فقط بل نوعا بالاساس؟ وكيف نمتلك أي قدرات على التخطيط الفعّال دون أدنى قدرات على التحليل والتقييم والاستنياط؟
فقط التفاتة جادة الى التعليم أيها اليسار. الى الأجيال التي تربى على ان تساق وتتبع. هناك بالأساس، وقبل كل شيء مربط الفرس!
الأيام، حزيران/يونيو 2009