ضمن منظومة الزعيم، المالك الوحيد للبلد والمتحكم فيه هو وزمرته، تشكّلت منظومة "المرجلة" والتي ووفقاً لها تمّ تعيين الرجال فيها أوصياء على النساء يسخّرونهن من أجل الراحة والاستمتاع
أن تعيش في وطن محتل تحاصر حدوده جيوش المحتلين لتمنع عنك الماء والغذاء والهواء إلا بأمرها ومن خلالها، وتتحكم حتى بحركتك في داخل هذا الوطن فهذا أمر... وأن تعيش في وطن يزعمون أنه "وطن حر" فيقف على حدوده جنود من أبناء الوطن ليحموه من الخارج في حين تتحكم به القوى الخارجية من داخله حمايةً لمصالحها و"أمنها" دون أن تضطر إلى إرسال جيوشها أو حتى للسيطرة على حدوده، فذاك، أيضاً، أمر بات جليّاً وحدّث عنه ولا حرج، وأن تعيش في وطن تحكمه زمرة ديكتاتورية تتاجر بمصالح الوطن والمواطن لتتحول البلاد إلى "عزب كبيرة" أو "مصالح الأقلية" حيث عليك أن تختار واحداً من أربعة خيارات، إما خدمة وحراسة مالك "العزبة" بما يتطلبه ذلك العمل من حماية لصاحب العزبة قد تضطرك إلى قمع كل من تسول له نفسه أن يدخل هذه "العزبة" أو يهدد صاحبها، حتى تتحول إلى "مجرم" أو "عميل" أو سمّه ما شئت مقابل بعض السلطات والمنافع المحددة التي قد تعطى لك مقابل تحوّلك إلى شخص آخر (ليس أنت)، أو تغري المالك ببعض الأرباح والاستثمارات إن كنت "فهلوياً" أو "دون ذمة" فتجاوره وتصبح من شركائه، أو تعيش "الحيط الحيط وتقول يا رب الستر" وتشقى من أجل أن تعيش وتعيّش أطفالك مضحياً بكرامتك وكرامتهم راضياً بالقليل، في حين ينعم القويّ بتعبك وعرقك وحقوقك، أو تقاوم ضد هذه المنظومة لتخرج من هذه الدوامة باتجاه الشمس، وهذا هو الخيار الذي اختاره شباب ونساء وأطفال وشيوخ تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية فخرجوا وخرجن إلى الشوارع مختارين ومختارات الخيار الرابع... .
وفي حين يعلن الشعبان التونسي والمصري انتصارهما على الديكتاتوريات التي حكمت لسنوات طوال، مدركين ومدركات أن انتصارهما هذا ما هو إلا بداية مهمة للانتصار وأن عليهم متابعة النضال إلى أن يتمكنوا ويتمكنّ من دحر آخر حلقات هذه الأنظمة والتي ما زالت موجودةً وتقاوم بأشكال مختلفة واضعة الشعب بين خيارين: إما الاستمرار بالنضال حتى تحقيق النصر الحقيقي باتجاه تحقيق حياة حرة وكريمة لكل مواطن ومواطنة، وإما العيش بوهم الانتصار وباتجاه العودة إلى الوراء... .
وفي الوقت الذي نعتز به بأن كلا الشعبين التونسي والمصري قد اختار الخيار الأول، وأنهما ما زالا يناضلان من أجل استكمال الانتصار، تخرج من بين هذين الشعبين قوى ضلالية تحاول أن تجر الشعب باتجاهات أخرى مستغلة العقلية الذكورية "الديكتاتورية" التي نمت وتطورت في ظل سياق تاريخي تشكّلت فيه هذه الديكتاتوريات على مستويات مختلفة. فكما بنيت منظومة الرئيس / الملك، المالك الوحيد للبلد والمتحكم فيه هو وزمرته ويعملون من أجل تسخير كل الشعب وموارد الوطن لمصالحهم، فقد تشكّلت منظومة "المرجلة" والتي ووفقاً لها تمّ تعيين الرجال فيها أوصياء على النساء يسخّرونهن من أجل الراحة والاستمتاع، وكما قبلنا تغييب حرية التعبير عن الرأي في الدولة، واستدخلنا كل آليات العنف والقمع حتى باتت جزءاً منّا، فقد قبلنا تغييب حرية التعبير داخل الأسرة والمجتمع ولا سيما إن كان الأمر يتعلق بحرية الرأي عند النساء، واستدخلنا كل آليات العنف والقمع لقمعهن واستغلالهن، بل حتى أننا شرّعناه وأوجدنا له القوالب الرسمية من قوانين وتشريعات تشرّعن قتل النساء وتعنيفهن وتطليقهن طلاقاً تعسفياً وغيرها من القوانين في الوقت الذي طورنا فيه، أيضاً، قوالب شعبية مساندة. أو لسنا نحن أصحاب الأمثال الشعبية: "دلل بنتك بتخزيك ودلل ابنك بيجيك" و"المرة زي السجادة إن ما انضربت بتبرغث" وغيرها من الأمثال والأقوال التي تحاصر النساء وتمنع عنهن الماء والهواء...
ففي الوقت الذي ما زالت فيه الشعوب تناضل من أجل الحرية والكرامة في كل من تونس ومصر، خرجت أصوات نشاز من بينها مدعومة أو مدفوعة من المستفيدين من هذه المنظومة، لتدير دفّة النضال باتجاه النساء، فها نحن نرى قوى ضلالية في كل من تونس ومصر بدأت معركتها باتجاه قمع النساء لتعلو أصوات "نشاز" تطالب بقمع النساء وحرمانهن من حرية الرأي وحرية الخيار ومن العيش بالكرامة التي دافعن عنها في الساحات العامة واستشهدن من أجلها، وكأن أحداً ما قد رمى لبعض الفئات "عظمةً" لتلهو بها مستغلة هذه العقلية، لنجد أصواتاً بدأت تناضل بالفعل من أجل فرض الحجاب والنقاب على النساء، وتطالب بإعادة تقييم قوانين الأحوال الشخصية باتجاه إلغاء كافة المكتسبات التي حققتها النساء، وهنا أتساءل "لماذا؟" و"لصالح من؟" سنترك ساحة النضال الأساسية ونناضل ضد النساء، وهنا سأتجرأ وأتساءل لماذا نتشدد في فرض الحجاب على النساء، وهو أمر عليه خلاف فقهي لن أدخل فيه ولن أدعّي أنني خبيرة فيه، في الوقت الذي لا نتشدد فيه في فرض قيم دينية مطلقة ليس عليها خلاف فقهي من مثل جباية الزكاة وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة، وما ذكري لموضوع الزكاة إلا كمثال عن واحد من أمور الدين التي نتناساها لأنها تضر بمصالح الأقوياء وأصحاب المال وغالبيتهم من الرجال، ونتمسك بما لا يمس هؤلاء الرجال ومصالح علية القوم وفقاً للتراتبية المتخلفة، وبما يضمن فرض الحراسة على النساء من قبل ديكتاتوريات مختلفة بعضها ينشط في الفضاء العام وبعضها ينشط في الفضاء الخاص...
لقد كان لي شرف زيارة تونس الخضراء بعد انتصار ثورة الياسمين، فتنفست عبقها لدرجة أنني استدخلت هذا العبق وعشقته لما يحمله هذا العبق من تفاؤل وأمل لحياة كريمة للشعوب، في الوقت الذي استوقفني موقف بعض الضلاليين ومناداتهم بأمور لا تمت للثورة بصلة، بل على العكس تعمل على إعادة بناء إطار ومنظومة فكرية تمهّد لإعادة استدخال ثقافة التبعية والاستغلال والإقصاء المبنية على تقبّل التراتبية الفظة، فإن لم ندرك أن بداية الإقصاء تكون عندما نقبل أن نقصي بعضنا البعض تحت أي مسمى "رجال ونساء"، "مسلمين ومسيحيين"، "سكان مدينة وسكان قرية" وغيرها من المسميات... أن نستوعب أن بداية الإقصاء ونهايته تبدأ بقبولنا مبدأ التراتبية واستغلال القوي للضعيف الذي يتم استضعافه تحت مسميات مختلفة منتجة عدة أشكال من المنظومات الديكتاتورية، ننتجها وندافع عنها حتى تصبح جزءاً من ذاتنا التي تدافع عنها عقلية "ذكورية" نحملها رجالاً ونساءً، حيث يرضى الرجال بقمع النساء وتسخيرهن، وتستدخل النساء هذا القمع وتبرره وتدافع عنه بل وتعلي صوتها أحياناً لتدّعي أن هذا الإقصاء كان خيارها ودون أن تقر أنه كان وما زال الخيار الوحيد الذي وضع أمامها وطلب منها اختياره أو اختياره... هذه العقلية التي ما زالت توهم الرجال أن هذا العالم هو لهم، وأن النساء قد خلقن من أجل إسعادهم وخدمتهم، فيستمتعون معهن متى يريدون، ويستغلونهن متى يريدون، ويعيدونهن إلى الصناديق والجوارير للتخزين في الوقت الذي يريدون أيضاً، موقعين أنفسهم في فخ التراتبية الهرمية، والذي يحمل عنوان "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
نهاية القول: إننا وإن لم نكن بالجرأة الكافية التي تمكننا من نزع هذه القوالب الفكرية الاستعمارية المبنية على قبول التراتبية في الحقوق والواجبات فلن نتحرر، لأنها (أي هذه القوالب) هي التي عملت على تدجيننا واستدخالنا لثقافة التبعية وتقبّل الظلم، وإننا إن لم نعمل على تحطيمها فسنبقى معاً في الصناديق والجوارير يتم الاتجار بنا ممن هم أقوى وأعلى وفقاً للعقلية التراتبية نفسها...
الأيام 14 حزيران 2011