الكتاب: الفيزياء ووجود الخالق
المؤلف: أ.د جعفر شيخ إدريس
دار النشر: دار البيان/ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية، 2001
المعركة بين المثبتين لوجود الخالق والنافين لهذا الوجود قائمة ومستمرّة منذ أن عَلِقَ الإنسانُ في شِباك وعيه على وجوده ووجود الكون حوله.
في لحظة هامّة من لحظات الوجود الإنساني في سياق تطوّره (واللحظة هنا لا تعني برهة زمنية بالمعنى الفيزيائي، وإنما هي الحالة التي كان فيها الإنسان آنذاك)، اكتشف الإنسان أن له وجوداً منفصلاً عمّا حوله، وأن ما حوله ممتدّ لأبعد مما تصله عيناه وتدركه مخيلته المبتدئة، وفي غمرة الاكتشاف المتواصل انثالت الأسئلة المختلفة بكثافة دون أن يكتلك قدرة على الإجابة.
من أهمّ تلك الأسئلة: أهناك ما (أو من) هو خلف كل هذا الامتداد المحيط؟ ومن هنا بدأ الإثبات، ومن هنا كذلك بدأ النفي، ولازالت المعركة قائمة مفتوحة على كل التوجهات، تحتدّ أحياناً، وتخفّ حدّتها حيناً آخر.. لكنها لا تتوقف.
تأخذ هذه المعركة وجوهاً عديدة أبرزها الحوار، ويتسلح المتحاوران ( النافي والمثبت) بكل ما تصل إليه عقولهما من أدوات كاللغة والمنطق والصوت.. ليصل الأمر في كثير من الأحيان لاستخدام القوّة في اقتتال بدأ بكلمات. وتبدأ بعده مراحل مظلمة في التاريخ البشري.
وبعيداً عن هذه المعركة يواصل البشر اكتشافاتهم للعالم المحيط بهم، ويتسع مدى العلم بالاكتشاف، وتظهر للناس قوانين في الفيزياء والكيمياء والأحياء والانسانيات وكافة صنوف العلم ومجالاته. وتوظيفاً لهذه المكتشفات يقفز المتحاورون (المثبتون والنافون) حول وجود الله على هذه القوانين للاستفادة من معطياتها في تأكيد رأي وإضعاف آخر. والكتاب الذي بين أيدينا واحد من تلك الكتب التي تحاول الإثبات.
لا يستطيع المرء إحصاء عدد الكتب التي تعتلي صفوف المكتبات في العالم تتناول تلك القضية في مجال الإثبات، أو تلك التي في مجال النفي، لأن الصراع بين الطرفين ممتدّ عبر التاريخ، وهو صراع الفلسفات الذي شارك فيه كل من يمتلك عقلاً بطريقة أو بأخرى. ولا زالت ذاكرتنا تحتفط بالكثير من المحاورات بين أفلاطون ومجايليه حول ذات القضية، وبين هيراقليس ومخالفيه في مرحلة الحضارة الإغريقية.
هذا الكتاب لواحد من دعاة الإثبات، كما أسلفنا، يريد من خلاله تقديم أدلّة من اكتشافات الفيزياء تثبت وجود الخالق، والمؤلف فيما يبدو عالم دين وليس عالماً في أي تخصص علمي، مع أنه أستاذ وبروفيسور، لكنه في علم الأديان وليس علم الأبدان كما صنفها الغزالي. وبالتالي يمكن تصنيف الكتاب في قائمة كتب «الفيزياء الدينية» أي تلك المعلومات الفيزيائية التي وردت عَرَضاً في النص القرآني، وقام المعاصرون بمطابقة تفسيرهم للنص على قوانين الفيزياء، وهي بالتالي من فصيلة الفيزياء غير العلمية. يلجأ الكاتب كما العادة في مثل هذه الكتب، الى الوحدات النصّيّة القرآنية، وبعض الأحاديث المنسوبة للنبي لتقديم رؤية «علمية» تثبت أن للكون خالقاً هو (الله).
يعتمد الكاتب المنطق الشكلاني في الحديث عن رؤيته في إثبات وجود الله انطلاقاً من مقولة ذاك الأعرابي: البعرة تدلّ على البعير والأثر يدلّ على المسير.. سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج.. ألا تدلّ على العليم الخبير؟ وهي مقولة يعيدها ويؤكد عليها معظم الذين يريدون إثبات وجود الخالق، وإن بصيغ مختلفة وبلغات متعددة، لأن الكاتب يلجأ للاستشهاد بمقولات كثيرة لعلماء غربيين (يعتبرهم حجة في هذا الشأن) يتحدثون بذات الكيفية والمنهجية، ونحن نقول لهذا الأعرابي ولكل الأعراب والأغراب مثله: كيف يدلّ كل هذا على العليم الخبير؟
فالمنهجية المتبعة في عملية الإثبات هي منهجية شكلانية تقوم ابتداء على افتراض وجود الخالق ثم تبدأ في الإثبات الذي يؤكد المقولة ولا ينشئها، وهو ما لا يفطن له المؤلف في كتابه.
ومن هنا فلا اعتبار عنده لتلك العلاقات المعقدة المتشابكة في عمليات الإثبات والنفي لوجودٍ هو عملياً خارج دائرتيْ الإثبات والنفي معا، وهي العلاقات التي لا تتدخّل العلوم المختلفة في تأييد بعضها ونفي البعض الآخر.
فالنظرية النسبية، وما تفرّع منها وتطوّر عنها ودار حولها من اختلاف لم تُكتشف لإثبات وجود الخالق، ولا لنفي المادة وليس فيها ما يدلّ على هذا ولا ذاك، ولم يقل أحد بأن نتائجها نهائية قطعية لا يأتيها الباطل من أي مكان حولها، كما أنها لم تأت لنفي وجود شيء بالمقابل، وإنما هي كشف عن قوانين كامنة في الطبيعة المحيطة. ولكن يبدو أن اعتماد النص القرآني كمسلّمة لدى أهل الإثبات يحتاج لاستكمال إيمانهم به إلى إثبات فيلجأون لتوظيف الكشوفات العلمية لإثبات صحّة واحدة من وحدات النصّ وبالتالي الردّ على القائلين بالنفي، وهذه منهجية شكلانية طبعت الكتب بكامله، كما أنها تطبع جلّ ما يُكتب في هذا السياق سواء لدى أهل النفي أو أهل الإثبات سواء بسواء.