قراءة في كتاب مختلف
مروان العلان
"خاض القصيمي ما لا يحصى من المعارك الفكرية بدءاً بمعاركه مع القوى السلفية في الأزهر، وصراعه من شيوخ الأزهر، انتقالاً إلى صراعاته من رموز التنوير والنهضة آنذاك كطه حسين وأحمد لطفي السيد"
الكتاب: من أصولي إلى ملحد (قصة انشقاق عبد الله القصيمي).
المؤلف: يورغن فازلا
ترجمة: محمود كيبيو
الناشر: دار الكنوز الأدبية: بيروت. 2001
تتعدد التجربة الانسانية بين ضفتي الإيمان، ومع أن الانتقال إلى ضفّة الإيمان بالدين والغيبيات والفلسفة المثالية هي الأكثر كثافة من حيث تعداد سكانها فإن الانتقال الى الضفّة الأخرى؛ ضفّة الإيمان بالعلم والفلسفة العلمية هي الأكثر عمقاً وأهمية، ليس فقط بسبب تلك القلّة في تعداد السكان، بل لأن من يفعلون ذلك إنما يفعلونه استجابة لحاجات وتوجهات فكرية مدروسة ومعمقّة، بينما تتعدد الأسباب في انتقالات المنتقلين إلى الضفة الأولى، من الخوف الى التهديد إلى الإغراء فالإغواء.
وبينما نشهد عشرات الكتب تتحدث عن الذين «اهتدوا» إلى «الدين القويم» وأخرجهم الله «من الظلمات إلى النور» ورووا قصة «إيمانهم» وتخلّيهم عن «الكفر والضلال» فإن عدد الكتب التي تتحدث عن الانتقال الى الإيمان «الآخر» لا يتعدى أصابع اليد الواحدة. ولا يتحدث الباحثون إلا عن عدد ضئيل لهؤلاء المنتقلين «من الجهل إلى العلم».
قصة الكاتب عبد الله القصيمي واحدة من تلك القصص النادرة التي وجدت باحثاً ألمانياً يتقدّم لنيل شهادة الدكتوراه، حيث رصد الباحث انتقال القصيمي من وهابيّ سلفي مغرق في تديّنه ودفاعه عن «بيضة الإسلام» في عدد من كتبه عندما كان طالباً في الجامع الأزهر مبتعثاً من الحكومة السعودية بقيادة عبد العزيز آل سعود، المؤسس الأول لتلك الدولة، إلى علماني ملحد يخاطب الإله والأنبياء بلغة احتجاج صارمة الدلالات والمفاهيم، ويطالب الكون بمحاكمة الإله، ويعلن على الملأ آراءه غير عابئ بكل الذين يحيكون ضدّه المؤامرات لإيقافه عند حدّ ولو بالقتل .
تناول الباحث في رسالته كل ما كتبه القصيمي في حياته، راصداً التغيّر الذي طرأ عليه خطوة بخطوة. محللا الدوافع الفكرية والنفسية والاجتماعية التي دفعت بالقصيمي إلى التغيّر التدريجي في فكره وتوجهاته.
لقد خاض القصيمي ما لا يحصى من المعارك الفكرية بدءا بمعاركه مع القوى السلفية في الأزهر، وصراعه من شيوخ الأزهر الذين يتمسكون بمواقفهم ومناصبه ولو على حساب الحقيقة الدينية آنذاك، انتقالاً إلى صراعاته من رموز التنوير والنهضة آنذاك كطه حسين وأحمد لطفي السيد وغيرهم، وعندما بدأ التغيّر الفكري الجديد يلوح في كتابات القصيمي بدأت الصورة تختلف، وواجه صراعات أكثر حدّة مع الأنظمة السياسية التي كانت تسنّ القوانين التي تمنع الجهر بمثل تلك الآراء الإلحادية حسب تقييمها من قبل كهنة المعابد الفكرية المتسلقة على جدران الأنظمة لنحمي مصالحها وعلاقاتها بها.
وكع أن القصيمي لم يتعرض للاعتقال، وإنما للنفي فقط من مصر إلى لبنان، إلا أن نفيه إلى هناك كان بوابتهالجديدة إلى عالم النشر بحرية في صحف عديدة كالآداب والنهار وغيرها مما أتاح له المزيد من الجرأة القلمية شهد لها الكثيرون من مجايليه.
لكن الباحث يأخذ علي القصيمي أنه لم يضع رؤية مكتملة لموقف فكري أو سياسي يطلب فيه من قرائه الإيمان به أوالالتزام بقواعده، وإنما اعتمد الاحتجاج الصارخ والرفض الحادّ المباشر لكل المعتقدات الدينية الغيبية تاركاً القارئ في حيرة من أمره، حيث يوافقه على الارفض لكنه لا يقدّم له البديل، لذا لم يعتبر القصيمي من روّاد الإصلاح أو أصحاب المدارس أو المذاهب الفكرية التي تبقى بعد أصحاب عبر تلاميذهم والمؤمنين بنهجهم وتوجهاتهم.
يُشهد للباحث الألماني تلك القدرة على إعادة قراءة تراث القصيمي وترتيبه حسب تاريخ النشر، كما يُشهد له تلك الموسوعية المعرفية في رصد التغيّرات في الأوساط الفكرية العربية في القرن الماضي، وفهمه العميق للعوامل المختلفة التي لعبت دورا في إحداث التغيير وواكبت حراك التنوير والنهوض منذ الشيخ محمد عبده وحتى سنة رحيل القصيمي 1996، كما يُشهد له بذلك الجَلَد والصبر القدرة على قراءة المعاني العميقة التي تضمنتها مقالات القصيمي وكتبه التي زادت علي العشرين كتاباً، ومئات المقالات.
إن مثل هذه التجارب الفكرية المغايرة لكل ما ألفناه من تجارب انتقال فكري تقدّم لنا رؤية أوضح للاصطراع الفكري الذي يدور في البدء في أذهان أصحابها قبل أن يقوموا بتقديمها للناس، وهو التقديم الذي يحتاج إلى جرأة وتحمّل لكل أدوات القمع والضغط والإرهاب الفكري والنفسي الاجتماعي الذي تمارسه قطاعات واسعة في المجتمع والسلطة تحت ذريعة حماية المعتقدات والأخلاق والمجتمع من هذه التأثيرات الخطرة، كما تستحق هذه التجارب وقفات مطوّلة لقراءتها والاستفادة منها بعد أن ملأت السوق كتب الانتقال الأخرى التي لا تحمل عمقاً فكرياً، ولا تتسلح بالأدلة العلمية.
مروان العلان