يطير زغلول النجار هذه المرّة إلى السماء ليبيّن لنا مدى عظمتها وقوّتها، وضرورة فهم التفاصيل المتعلقة بها، ويقف عند الآيات القرآنية ليؤالف بينها وبين المكتشفات العلمية بطريقته التي اعتدناها في لقاءات سابقة، مع رؤاه حول الإعجاز العلمي في القرآن. ولو ترك الشيخ الناس تفهم القرآن كما تصل إليه عقولهم لكان أراح واستراح، لكنه، كعادته، يفتح بوابة الشرح والتفسير العلميين للوحدات القرآنية، فيضيع القارئ ولا يدري كيف يفهم ولا ماذا عليه أن يفهم، ولا يعرف بم يؤمن ولا كيف يؤمن، فينكفئ نحو «إيمان العجائز» الذي هو الملاذ الأخير من فتنة الفهم والبحث وصعوبة التفسير.
عندما يقرأ المؤمن في فترة الإسلام الأولى وما قبلها، الوحدة التي تقول: }الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها{ والوحدة التي تقول: }ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه{ فإنه يتصوّر أن هناك سقفاً فوق رأسه يغطي كل ما فوقه ويمسكه الله حتى لا يقع على رأسه. ولأن الموضوع ذو علاقة بقدرة الله فإنه لا يحتاج لأعمدة لإبقاء السماء ثابتة في مواضعها، وحتى لو احتاج لذلك فإن الأعمدة ربما تكون موجودة ولكن الإنسان لا يراها. وهكذا تتجسد صورة الأرض والسماء في الذهن المؤمن كبيت له سقف هو السماء، وتكون الأرض التي نحن عليها هي أرضيته، وهناك أعمدة غير مرئية تبقي السقف مرفوعاً مثبتاً بقدرة الله. ويكتفي المؤمن بذلك غاضّاً النظر عن التوافق أو التناقض بين هذه الصورة وما اكتشفه العلم الحديث في مجال الفلك. بيْد أن الشيخ زغلول يصرّ على نبش المسألة لأنه معنيّ ببيان أن العلاقة بين النص الديني، حسب ما يفهمه هو وأمثاله، والعلم الحديث هي علاقة توافق كلّي وأنه لا تناقض بينهما على الإطلاق، وأن على المؤمنين أن يفهموا ذلك. وهو يقدّم لهم الإثبات بتفسيراته للوحدات التي تتحدث عن مسائل ذات صلة بالعلم في الوحدات القرآنية المختلفة، والتي ترد فيها كمعلومات عامّة كانت سائدة ومعروفة في فترة بدء ظهور الإسلام أو قبله، وتشكل نصوصه القرآنية.
المشكلة في طريقة الشيخ زغلول في التفسير أنه دائماً يضع القواعد الإيمانية المفترضة في البداية حتى يجد المؤمن نفسه معنياً بالإيمان بها قبل أن يدخل بوابة التفسير، فيؤمن بأن ما سيأتي لاحقاً مرتبط بهذه الإيمانيات، وبالتالي فإن كل ما سوف يقوله الشيخ صحيح، وهو جزء من هذه الإيمانيات. ثم يدخل الشيخ بوابة النصوص لبيان أن كل ما ورد فيها صحيح ولا يتناقض مع العلم، ويبدأ بعرض القوانين والمكتشفات العلمية بتفصيل لا يمكن التقاط العلاقة بينه وبين نص الوحدة القرآنية، ولكنه معنيّ بذلك ليقول للمؤمن بأن هذه التفاصيل، ولو لم ترد في النص إلا أنها لا تتناقض مع النص بصيغته الإيمانية العامة، لذا يجب أن تؤمن بأن هذا النص فيه كل شيء تريد معرفته في هذا المجال، وها أنذا أقدم لك هذه التفاصيل.
وتبدأ بعد ذلك كارثة التفسير والربط بين مضمون النص وتفاصيل المسألة العلمية، فيستشهد بكل من تقدّم عليه في هذا المجال من مفسرين وعلماء وأئمة، رغم التناقض الفاضح في بعض الأحيان بينهم.
في مسألة السماء التي بغير عمد، ونحن نعلم حسب ما تكشفت عنه علوم الفلك الأولية، ناهيك عن كشوفات الفلك المعاصرة، أنه ليس هناك سقف فوق الأرض ولا في أي مكان في الكون، وأن الفضاء الكوني لانهائي وهو ممتلئ بالكواكب والنجوم والمجرّات، وأن الأرض ليست سوى هباءة صغيرة تدور مع كل هذه الكواكب والمجرات، وأنها لا تصلح أرضية لسقف كهذا الذي يتحدث عنه المفسرون، وأنه ليست هناك أعمدة مرئية أو غير مرئية تربط بين السقف المرفوع والأرض الموضوعة. وأن فكرة السماء التي بغير عمد إنما هي تصوّر كان سائداً يناسب عقول العرب الذين يسيرون في صحرائهم ولا يرون سوى أرض ممتدة، وتعلو رؤوسهم زرقة نهارية وحلكة ليلية، فيتخيلون أن هناك سقفاً ولكن بدون أعمدة ترفعه.. لذا جاءت الوحدة القرآنية متناسبة مع ذلك الفهم البدائي آنذاك، ولكن ما الذي يقوله الشيخ زغلول وأضرابه من المفسرين والعلماء؟
يقول إبن كثير بأن السماء على الأرض مثل القبة، ويرى إبن عباس ومجاهد والحسن بأن هناك أعمدة ولكنها غير مرئية، بينما يرى محمد عبده أحد قادة التنوير في القرن التاسع عشر بأن كل كوكب من الكواكب المنتشرة في الفضاء هو لبنة من لبنات هذا السقف وأن الله يشدّ هذه اللبنات بقانون الجاذبية! وقد أدرك سيد قطب هذه الورطة في الفهم فأسند الفهم لإدراك الناس في كل فترة من فترات فهمهم لما يحيط بهم، وأن تأمل الناس لهذه المعروضات الكونية في فترتهم هو المقصود، بينما يرى الفخر الرازي بأن العمد المذكورة هي قدرة الله وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيّز الحالي.
أما الشيخ زغلول فيدلي بدلوه (البلاستيكي) في هذه المسألة، في كتابه: السماء في القرآن. ويرى أن الدراسات الكونية تشير إلى وجود قوى مستترة في اللبنات الأولى للمادة وفي كل من الذرات والجزيئات وفي كافة أجرام السماء تحكم بناء الكون وتمسك بأطرافه إلى أن يشاء الله فيدمّره... لكنه لا يخبرنا أين هي هذه القوى المستترة، وأين هي أطراف هذا الكون. وهو يرى استمراراً في مغالطاته العلمية أن من هذه القوى أربع صور هي القوة النووية الشديدة والقوة الذرية الضعيفة والقوة الكهربائية-المغناطيسية أو الكهرومغناطيسية وقوة الجاذبية... الله يفتح عليك يا شيخنا. وهكذا تصبح مكتشفات العلوم في المجال الذرّي والكهربائي والجاذبية هي العمد التي تمسك السماء أن تزول... ويشرح الشيخ هذه القوى ويوغل في الشرح حتى ليجد القارئ نفسه في متاهة من المعلومات العلمية تنسيه أنه يبحث عن معنى الأعمدة التي تمسك السماء. ولا يكتفي الشيخ بذلك، إنما يواصل الحديث عن جهود العلماء في ربط القوى الأربع ببعضها وتوحيدها تحت مسمى "نظريات المجال الواحد أو النظريات الموحّدة الكبرى" أو فيما يسمى الجاذبية العظمى وهي القوة التي كان الكون موحّداً فيها ثم تجزأ لتلك القوى الأربع، والعلماء يحاولون اليوم إعادة توحيدها، وهذه هي العمد التي تربط السقف السماوي بالأرض التي نسير عليها باطمئنان... ويوغل الشيخ في شرح مفهوم الجاذبية ويقدّم لنا عشرات الصفحات في تفاصيل قوانينها التي تحتاج لمختص كي يتمكن من فهمها، ناهيك عن قدرته في اعتبارها تلك الأعمدة غير المرئية التي تستند السماء عليها لتبقى في مكانها "بقدرة الله".
هذا هو مأزق التفسيرات العلمية للوحدات النصّيّة القرآنية، والتنطع في قولبة هذه الوحدات أو قولبة المكتشفات العلمية داخل قوالب لا علاقة لها بها، فلا العلم ذو علاقة بالدين الغيبي المصدر والمعلومات، ولا الدين ذو علاقة بالعلم الذي لا يؤمن إلا بالتجريب والاكتشاف، وأن فهم النصوص الدينية إنما يكمن في فهم الثقافة التي كانت فترة ظهور هذا الدين أو ذاك، وأن اختلاف العصور وتقدّم الحياة وتطوّرها إنما يؤكد أن على هذه الأديان أن تبقى في زمنها وتُعامل في تاريخيتها التي كانت فيها.