تحدّي إقامة العدالة الاجتماعية في بلدان المدّ التحرري العربي
الحكم التسلطي ينتج، ويخلِّف وراءه، تركة ضخمة من الظلم الاجتماعي
كان تقرير التنمية البشرية للعالم العربي الذي صدر عام 2005 قد أثار ضجّة كبيرة. إذ كان أوّل تقرير عالميّ يضعه مفكّرون عرب يبرز دون مواربة فشل النموذج التنمويّ في البلدان العربيّة، بسبب الأنظمة الاستبداديّة وهيمنة الدول العظمى اقتصادياً وسياسياً. رئيس فريق واضعي التقرير يعود اليوم إلى تحديات التنمية ويضع مجدّداً أفقاً للتغيير...
أقصد ببلدان المدّ التحرّري العربيّ تلك البلدان العربيّة الطامحة إلى التحرّر من الحكم التسلطيّ، إمّا من خلال انتفاضات شعبيّة تتصاعد حتّى تكتمل في ثورةٍ شعبيّة منتصرة وناجحة، أو من خلال الإصلاح الجاد الشامل والعميق من داخل نظام الحكم، بما ينتهي لنيل غايات الحرية، متضمّنة قيام الحكم الديمقراطي الصالح، والعدل والكرامة الإنسانية.
الحرية هي القيمة الإنسانية الأعلى على سلّم الطيّبات. ولهذا فإن أحد الجوانب المضيئة في التاريخ البشريّ هي التوق الدائب للتمتّع بالحريّة، والنضال من أجل نيل تلك الغاية السامية. وعلى خلاف غلو الليبراليّة، خاصّة في صياغتها المحدثة التي جرّت على البشرية ويلات تحت شعار "لا حرية إلاّ لرأس المال وحافز الربح"، في ظلّ ما سمي بـ"توافق واشنطون" وأطلقت الرأسمالية البربرية لتفترس البشر والرفاه الإنساني في جميع أرجاء العالم، لا يتوقّف مفهومنا للحرية عند حريّة الفرد ولا يكتفي في حرية الفرد باحترام الحريات المدنيّة والسياسية. فالحريّة مطلوبة للوطن، كما للمواطنين جميعاً.
على مستوى الفرد، نطلب الاحترام الكامل للحريات المدنيّة والسياسية، خاصة على صورة المساواة في حقوق المواطنة كافّة. ولكنّنا نصر إضافةً على القضاء على جميع أشكال الانتقاص من الكرامة الإنسانية، مثل الفقر والجهل والمرض والظلم. إنّ الحرية الفردية لا تكتمل إلاّ بالعدل والاحترام التامّ للكرامة الإنسانية. على أنّه، في مقابل الحرية سعى البشر دائماً، في جانبٍ أقل إضاءةً من السعي للحريّة، لامتلاك القوّة التي تيسِّر قهر الآخر أو فرض إرادة من يمتلك القوّة على الآخرين، خاصّة أولئك من لا يمتلكون أسباب القوة. وقد تمثلت القوّة عبر التاريخ البشري في جانبين: السلطة السياسية والثروة.
وحيث القهر هو نقيض الحرية، فقد قام دائماً توتّر بين الحرية والقوّة في جميع المجتمعات البشرية. واقتضت إدارة هذا التوتّر قيام أنظمة الحكم التي تعنى في الأساس بمسألتين: توزيع القوّة، بوجهيها، وأسلوب ممارسة القوّة. وقد تنوّعت أنظمة الحكم على هذين المحورين. وحيث تغري السلطة بالاستبداد والتسلّط، خاصة لو كانت مطلقة، تهدف أنظمة الحكم الديمقراطي الصالح لوضع ضوابطٍ على ممارسة القوّة: فالقاعدة أنّ السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
ومن ثمّ، ففي أنظمة الحكم الديمقراطي الصالح يتّسم توزيع القوّة بالعدالة وتمارس القوّة لتحقيق الصالح العام، عبر مؤسّسات شفافة تحكمها قواعد ثابتة ومعروفة للجميع. أمّا في أنظمة الحكم التسلّطي فتحتكر قلّة القوة، وتمارس القوّة، بواسطة ثلّة أو حتّى فرد واحد متسلّط، لضمان مصالح الثلّة القابضة على مقاليد القوّة وأهمّها استمرار قبضتها على مقاليد القوة. وفي أنظمة الحكم التسلطي عادة ما يتزاوج وجهي القوة: السلطة والثروة، بما يتيح المناخ المؤاتي لنشأة متلازمة الفساد والاستبداد. وعادة تسعى أنظمة حكم الاستبداد والفساد إلى إطالة أمد استبدادها بالقوّة ومغانمه الضخمة، بحرمان الغالبية من مصدري القوّة، من خلال إفقارها وإقصائها من السياسة عن طريق خنق المجال العام وتقييد التمتّع بالحرية، خاصّة الحريّات المفتاح للتعبير والتنظيم (التجمّع السلمي وإنشاء المنظّمات في المجتمعين المدني والسياسي).
الحكم التسلطي ينتج، ويخلِّف وراءه، تركة ضخمة من الظلم الاجتماعي
مصدر الظلم الاجتماعي الأول هو العصف بالحريات والحقوق من خلال القهر والبطش البوليسي، وهذا من السمات الأساسية للحكم التسلطي. كما يقترن بمصدر الظلم الأساس هذا إفقار الغالبية الساحقة من الناس وتكريس التفاوت الشديد في الدخل والثروة، ومن ثم في القوّة، في المجتمع. حيث عادةً ما اقترن الحكم التسلّطي في البلدان العربية بحالةٍ حادة من الفشل التنمويّ تكاد تقضى على الكرامة الإنسانية لكثرة الناس. ويتجلّى الفشل هذا في عددٍ من الظواهر السلبيّة مثل تفشّي البطالة واستشراء الفقر، وما يترتّب عليهما من تفاقم الظلم في توزيع الدخل والثروة في المجتمع. ففي كثير من البلدان العربية التي لا يمتلك أصولاً رأسمالية فيها إلاّ قلّة قليلة، تعني البطالة التحاق من لا يتمكّنون من الحصول على دخلٍ من العمل بصفوف الفقراء. وتعاني الفئات الضعيفة في المجتمع مستويات أعلى من البطالة والفقر.
ينجم عن ذلك الفشل التنمويّ أن يعاني عامّة الناس تحت الحكم التسلّطي تعاسة قاصمة، تتفاقم باطراد، وأن تهدر الكرامة الإنسانية لجموع البشر، لاسيّما الضعفاء. وتكفي هنا الإشارة إلى شقاء أطفال الشوارع - لاسيما بنات الشوارع وأبنائهنّ من "مواليد" الشوارع اللائي يحملن بهم اغتصاباً وسفاحاً ثم يضعن حملهن في الشوارع أيضاً - ومعاناة المسنّين، من النساء والرجال، والمعاقين مهانة التسوّل في ظروفٍ قاسية من حرّ الصيف وزمهرير الشتاء لمجرّد سد الرمق. مثل هذه الظواهر تنفي عن أيّ مجتمع أي ادّعاء بالتنمية أو الإنسانية. ويعود هذا الفشل التنمويّ الحادّ إلى مرضٍ عضال في الاقتصاد السياسي للبلد في ظل نظام الحكم التسلّطي، فحواه تحالف الاستبداد والرأسمالية المنفلتة بما يؤدّي لاحتكار التشكيل العصابي الذي يحيط برأس الحكم التسلّطي للسلطة السياسية والثروة كلتيهما، وتسخير جميع إمكانات البلد لخدمة مصالح هذه الثلّة، بدلاً من خدمة مصالح عموم الناس، ناهيك عن النهب الإجرامي المنظّم لموارد البلد وتهريبها إلى الخارج كما حدث في كثير حالات صارت مشهورة. ويضمن الاستبداد، وتجليّاته القانونية والإجرائية، أن يفلت المسؤولون من العقاب على هذه الجرائم في حقّ الشعب لانتفاء المساءلة الفعّالة التي لا تقوم إلاّ في حكمٍ ديمقراطيّ صالح، فيستشري الفساد الفاجر نهباً للبلاد والعباد.
إنّ تحالف الاستبداد والرأسمالية المنفلتة، أو البربريّة، يطلق حرية رأس المال وحافز الربح فقط، على حساب حقوق وحريات عامّة الناس. ويقوّض تحالف الرأسمالية المنفلتة مع الاستبداد، مقوّمات الرأسمالية الكفؤة والناجحة، وهي حماية المنافسة بمكافحة الاحتكار وبسط العدالة التوزيعيّة في المجتمع من خلال آلية الضرائب التي تأخذ من أرباح رأس المال لحماية الفقراء والضعفاء من غائلة الفقر وعاديات الدهر. بل في ظلّ هذا التحالف الشرّير، تستخدم السلطة السياسة لتكريس الاحتكار وحمايته بدلاً من منافحته باعتباره أشدّ الأمراض المجتمعية فتكاً بالكفاءة الاقتصادية وبالعدالة الاجتماعية سويّاً (في ظلّ المنافسة التامّة وتعدّد المنتجين أو المورّدين، أي غياب الاحتكار، يجري الإنتاج أو البيع بأعلى كفاءة وبأقلّ تكلفة، ما يحقّق للمستهلك أفضل جودة وأقلّ سعر؛ بينما لا يهتمّ المحتكر إلاّ بتعظيم أرباحه، ولو على حساب الجودة ورفع سعر المستهلك بلا سقف من المصلحة العامة(1).
ولهذا يسبّب تحالف الاستبداد والرأسمالية البربريّة، المنفلتة والاحتكارية، دوام التخلّف لإنتاجي وتدنّي الإنتاجية، ناهيك عن استشراء البطالة والفقر والحرمان من الحريّات الأساسية. كما يتيح هذا التحالف مرتعاً للفساد الفاجر ولإهدار المال العام. ولذلك لا يحقّق هذا التحالف الشرّير نمواً اقتصادياً يعتدّ به، وتتوجّه عوائد ما يتحقّق من نموّ لزيادة ثراء ثلّة الحكم التسلطي وإفقار الغالبية الساحقة من الناس. في النهاية، مثل هذا التحالف الآثم لابدّ يحابي الأغنياء والأقوياء ويعاقب الفقراء والضعفاء. وتكون النتيجة اشتداد حدّة الاستقطاب المجتمعيّ بين قلّة قليلة تحظى بالنصيب الأكبر من السلطة والثروة، وغالبيّة ضخمة مهمّشة ومفقرة، ما يمهِّد، خاصّة في مناخ قمع الاستبداد للحريات العامة، لاقتتالٍ مجتمعيّ قد لا تحمد عقباه.
نقض تركة الظلم الاجتماعي
المدخل الرئيس لإقامة العدالة الاجتماعية هو نقض تزاوج الحكم التسلطي والرأسمالية البربريّة، المنفلتة والاحتكارية، من خلال بناء التنمية الإنسانية، أي تلك التنمية التي تقضي على الفشل التنمويّ الحادّ الذي خلّفه نظام الحكم المتسلّط، وأحد مقوّماتها هو الحكم الديمقراطي الصالح الحامي للحريات. هي التنمية التي تضمن العزّة والمنعة للبلد وتصون الكرامة الإنسانية لأهله جميعاً. لذلك نريد تنمية تقيم بنية إنتاجية قويّة وتضمن زيادة الإنتاجية باطّراد مما يفضي إلى قوّة الوطن.
وعلى مستوى المواطنين، نريد تنمية إنسانية تقضي على أمراض الفشل التنمويّ الراهن من بطالة وفقر وانتفاء للعدالة في توزيع الدخل والثروة، ومن مهانة الإنسان التي تتبدّى في أطفال ومواليد الشوارع، وفي كبار سنّ ومعاقين يتسوّلون لسدّ الرمق في ظروف تحطّ بالكرامة الإنسانية. باختصار، نريد تنمية تضمن حق جميع البشر في العيش الكريم والكرامة الإنسانية.
ولن تقوم هذه التنمية بدايةً إلا إذا أصبح الاقتصاد، كما الحكم، خاضعاً لمحاسبة فعّالة من عموم الناس على مدى وفائه بحاجتهم إلى العزة والكرامة، ولن يحدث ذلك أبداً إلا في نظام حكم ديمقراطيّ صالح تكون المساءلة الفعّالة للحكام والمسئولين أحد أهم مكوناته. ولن تقوم مثل هذه التنمية الإنسانية إلاّ بالقضاء على تحالف الاستبداد والرأسمالية الاحتكارية المنفلتة، سبب الفشل التنموي الراهن. ولذلك فالإضافة لقيام حكم ديمقراطيّ صالح، يتعين ترشيد التنظيم الاقتصادي للمجتمع بعيداً عن نمط الرأسمالية الاحتكارية المنفلتة لضمان الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية كليهما.
جماع القول أن مثل هذه التنمية الإنسانية لن تتحقّق إلا بإحلال التحالف الخيِّر بين الحكم الديمقراطي الصالح والتنظيم الاقتصادي، الكفؤ والعادل، محلّ التحالف الخبيث بين الاستبداد والرأسمالية البربريّة والاحتكارية المنفلتة، المؤسّس للتخلف والظلم. ويقوم هذا التحالف الخيِّر على الأركان الأربعة التالية:
الركن الأوّل: الحكم الديمقراطيّ الصالح الضامن للحريّة والعدل: من خلال بناء جهاز حكمٍ ديمقراطي صالح يتميّز بالسمات الثلاث الرئيسية التالية:
- يحمي الحرية، فانتقاص الحريّة، على أيّ من مستوياتها، يعنى عدم صلاح الحكم حتّى ولو قامت مؤّسسات "ديمقراطية" في الشكل؛ وهذه نقيصة تعاني منها للأسف نظم الحكم العربية بالإضافة إلى دولٍ غربية كانت تعدّ في الماضي مثالاً للحرية في العالم كلّه، على رأسها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة
- تمثيل الشعب بكامله، بما يضمن التعبير عن الإرادة الشعبيّة من خلال انتخابات حرة ونزيهة
- الحكم، أي اتخاذ القرارات في شؤون المجتمع، بما يضمن المصلحة العامة، من خلال مؤسّسات تتّسم بالشفافية والإفصاح عمّا يجري بها، وتخضع للمساءلة، فيما بينها، وأمام الناس كافّة. ويأخذ هذا في المجتمعات المتحضرة شكل الدولة (السلطة التشريعية - السلطة التنفيذية - السلطة القضائية) في ظلّ مبدأ الفصل بين السلطات ومساءلة بعضها البعض وخضوعها كلّها في النهاية للمساءلة أمام الشعب
- في ظل قانونٍ حام للحريّة ومنصف، يطبّق على الجميع على حدّ سواء، ويقوم عليه قضاء كفؤ ونزيه ومستقلّ قطعاً.
نسق الحكم الديمقراطي الصالح هذا، بالإضافة إلى حماية الحرية بمفهومها الشامل، يضمن التمتّع بحقوق الإنسان لجميع البشر، وبحقوق المواطنة لجميع المواطنين، غير منقوصة ومن دون أي تفرقة. ويضمن، على وجه الخصوص، التداول السلميّ للسلطة السياسية، ويقلّل من فرصة استبداد الأغلبية بالأقليّات في المجتمع.
الركن الثاني: مضمون التنمية الإنسانية المرغوبة: تستهدف التنمية المرغوبة بدايةً إقامة بنية إنتاجية قويّة ومتنوّعة تسند الاستقلال الوطني وتضمن منعة الوطن. وتتطلّب مثل هذه البنية الإنتاجية إضطراد ارتفاع الإنتاجية. وتستلزم زيادة الإنتاجية رفع جودة نظم التعليم والتدريب، المستمرّين مدى الحياة، وإقامة نسق فعّال للبحث والتطوير التقاني يضمن دخول عصر المعرفة باقتدار، وحسن إدارة مشروعات قطاع الأعمال (العام والخاص) وصلاح حكمها وفق مبادئ الإدارة العامة الرشيدة. غير أن أهمّ مقومات الإنتاجية العالية قاطبةً هو شعور العاملين بالانتماء، الذي يغذّيه تبلور شعور الفرد بأنّ الوطن يحميه ويضمن له العيش الكريم والكرامة الإنسانية. بعبارة أخرى يُعنى من الانتماء، بما يرفع الإنتاجية باضطراد، أن يتمتّع الفرد بكامل حقوق المواطنة ومجمل حقوق الإنسان، ما لا يتحقّق إلاّ في ظل شقّ الحكم الديمقراطي الصالح من تحالفنا الخيّر. وها هنا مدخل واسع آخر للتلازم بين الديمقراطية والتنمية الإنسانية. أما شقّ التنظيم الاقتصادي، الكفؤ والعادل، فيتطلب المقوّمات الرئيسية التالية:
بداية، دولة تنمويّة قادرة وفعّالة، تخضع للمساءلة الصارمة من عامّة الناس، وتقوم على ضبط الأسواق ورأس المال وحافز الربح لضمان المصلحة العامة للناس جميعاً، من خلال مناهضة الاحتكار وإرساء العدالة التوزيعية. ويتكامل مع الدولة التنموية الرشيدة هذه قيام قطاع أعمال (عام وخاص) يخضع لمعايير حسن الإدارة والحكم الرشيد. ويعني ذلك على وجه التحديد إعادة الاعتبار لنمط الملكيّة العامّة لمشروعات الأعمال (أقصد ملكيّة الشعب وليس ملكيّة الحكومة)، وتشجيع أنماط الملكيّة والإدارة التعاونية التي أهدرتها حقبة تحالف الاستبداد والرأسمالية الاحتكارية المنفلتة لمحاباة رأس المال الكبير والاحتكاري، بلا طائل، إلاّ الفشل التنموي. ولضمان الوفاء بحاجات الناس جميعاً للعيش الكريم والكرامة الإنسانية، يتوجّب أن يضمن الحكم الديمقراطي الصالح أجوراً، ومعاشات (وليست إلاّ جزءاً من الأجر مؤجّلاً لبعد التقاعد) تكفي للوفاء بالحاجات على مستوى مقبول إنسانياً، وتزداد تلقائياً حسب معدّلات غلاء الأسعار الحقيقية. ويتعين أن تقوم الدولة بواجبها في حماية عامّة الناس من الفقر والفاقة من خلال آليات العدالة التوزيعية. ما يستوجب ترشيد الموازنة العامة، من خلال آلية الضرائب المباشرة التصاعدية، مثل الضريبة العامة على الدخل والإثراء - بدلاً من الضرائب غير المباشرة التي تثقل كاهل الفقراء - ومكافحة التهرّب الضريبيّ وشتّى الإنفاق العام السفيه وأشكال الفساد التي استشرت في ظل الحكم التسلطيّ؛ ما يوفّر الموارد لضمان الدولة لمستوى جيّد من الخدمات الأساسية الحامية للقدرات البشرية الأساس، لاسيّما خدمات الرعاية الصحية والتعليم والتدريب، التي ترفد بدورها ترقية الإنتاجية. كما تقتضي حماية الكرامة الإنسانية إنشاء شبكات أمان اجتماعي واسعة وفعّالة، وإطلاق الحريات المفتاح للرأي والتعبير والتنظيم كي يتنامى المجتمع المدنيّ الحيويّ القادر على الدفاع عن حقّ الناس في مثل هذه التنمية الإنسانية.
الركن الثالث: الوفاء بالحقوق للجميع على قدم المساواة
حقوق الإنسان: بحيث يتمتع الإنسان بجميع حقوقه المقرّرة في منظومة حقوق الإنسان، لمجرد كونه إنساناً. وهي غير قابلة للتجزئة ومستحقّة لجميع البشر من دون أيّ تمييز (وتضمّ حقوقاً اجتماعية واقتصادية وثقافية، إضافةً إلى الحقوق المدنية والسياسية). ويأتي على رأس هذه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية:
- التمتّع بالصحة، بالمعنى الإيجابي الشامل، أي حالة من تمام العافية جسداً ونفساً، وتتضمّن الحق في تغذية سليمة والحق في الرعاية الصحيّة الجيدة وفي التمتّع ببيئة صحية
- اكتساب المعرفة من خلال التعليم ووسائل الإعلام، وتتطلّب إقرار الحق في الحصول على المعلومات. فقد أضحت المعرفة معيار القيمة في العصر الحالي وصارت قيمة الفرد، أو المجتمع، فيما يمتلك من معرفة، وبالأحرى فيما ينتج من معرفة
- فرص العمل الجيد، المحقق للذات والمدرّ لكسب يكفي للوفاء بالاحتياجات على مستوى معيشي كريم.
- السكن الآدمي المناسب الذي يضمن الصحة والكرامة
- الرعاية الكريمة في العجز والشيخوخة.
حقوق المواطنة: حتّى يتمتع المواطن بجميع الحقوق المدنية والسياسية المقرّرة في منظومة حقوق الإنسان، لمجرد كونه مواطناً. وهي غير قابلة للتجزئة ومستحقّة لجميع المواطنين من دون أيّ تمييز، أي بغض النظر عن الجنس أو اللون أو المعتقد أو الموقع الاجتماعي. وبديهيّ أن للمواطنين جميعاً التمتع بحقوق الإنسان كافّة، لمجرد كونهم بشراً. ويأتي على رأس حقوق المواطنة:
الحريات المفتاح الثلاث: الرأي والتعبير والتنظيم (التجمّع السلمي وإنشاء المنظّمات في المجتمعين المدني والسياسي)
حقوق تبوّؤ المنصب العام والمشاركة السياسية (الترشح، والانتخاب)، في انتخابات حرّة ونزيهة. إن الانتقاص من الوفاء بالحقوق، للإنسان أو المواطن، يدلّ على افتقار المجتمع للعدل، خاصّة إن كان الوفاء بالحقوق يتفاوت حسب معايير الجنس واللون والمعتقد والموقع الاجتماعي، حيث عادةً يعاني المستضعفون درجةً أعلى من الحرمان من الحقوق.
الركن الرابع: ضمان العدالة التوزيعية في المجتمع: ويعني إعادة توزيع الدخل وتوزيع الثروة (ما ينعكس على توزيع القوّة بسبب الميل لتزاوج السلطة والثروة) على مختلف الفئات في المجتمع، ويأخذ الصور التالية: o إعادة توزيع الدخل بين عوائد العمل (الأجور والمرتّبات، شاملة المعاشات التقاعدية) وعوائد الثروة (الأرباح والفوائد على رأس المال بأشكاله المختلفة). إذ على الرغم من أن مصدر الدخل الأساسي، إن لم يكن الوحيد، للأغلبيّة الساحقة من المواطنين في بلدان عربية كثيرة، مثلاً مصر والمغرب، هو العمل فإن عوائد العمل تمثل نصيباً قليلاً، ومتناقصاً من الدخل القومي. o عند تزاوج الثروة والسلطة، تسود قلّة (ثلّة) تتركز في أيديها السلطة والثروة، وتصبح الثروة وسيلة للسلطة، والعكس بالعكس، وينتهي الأمر باستقواء الثلّة وإضعاف الفقراء. ومن ثمّ، فإنّه من الصالح العام أن تستعمل آلية الضرائب (التصاعديّة) على الإثراء، في الأجل الطويل نسبياً، لتحقيق مستوى أعلى من العدالة في توزيع الثروة.
الرسالة المحورية
لنيل غايات المدّ التحرريّ العربي، ونجملها في ضمان التمتّع بالحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع، يتعيّن أن يتوق الشعب، خاصة الشبيبة، للحرص على اكتمال الانتفاضات الشعبية في ثورات شعبية ناجحة، واكتمال تجارب الإصلاح من الداخل، ليكون الإصلاح شاملاً، جاداً وعميقاً، بما يكفل نيل غايات المدّ التحرريّ، وذلك من خلال استمرار اليقظة الثورية من قبل القوى الشعبية الحيّة، لاسيّما الشبيبة، وامتشاق جميع أشكال الفعل الثوري السلميّ إلى أن تُنال الغايات الثلاث، وكلّها مفتوحة الأفق. ومن ثم، يتعين أن يُسعي إليها دوماً، وربما لا تُدرك كاملة أبداً.
--- --- --- --- --- ---
(1) نلاحظ هنا مروراً، أن شرطي الرأسمالية الناجحة، التي يمكن أن تحقّق الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية كليهما، هما: ضمان التنافسية من خلال ضرب الاحتكار بما يضمن أعلى كفاءة إنتاجية وأقل أسعار للمستهلكين والعدالة التوزيعية، بمعني أن تقتصّ الدولة من خلال الضرائب من الأغنياء لمساندة الفقراء المستضعفين وهذا النظام يتفادى فشل السوق الطليق (الذي حتماً يحابي الأغنياء والأقوياء ويعاقب الفقراء والضعفاء).
--- --- --- --- --- ---
(*) نادر فرجاني أستاذ في جامعة القاهرة، رئيس مركز المشكاة، ورئيس فريق تحرير "تقرير التنمية البشرية العربيّ"، الذي صدر عام 2005 عن برنامج التنمية التابعة للأمم المتحدة UNDP.
وهذا النصّ هو لمحاضرة قدّمها الكاتب في ندوة فاس: التحديات الاقتصادية والاجتماعية للربيع العربي، 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2011.
عن: لوموند ديبلوماتيك، كانون الثاني/يناير 2012