الاستهلال والخلاصة من كتاب:
"قراءة سياسية في العهدين المحمدي والراشدي"، في جزئين، تأليف عبد المجيد حمدان(*)، رام الله، 2007
عبد المجيد حمدان
استهلال أوّل
خاضت حركات إسلامية، في وطننا العربي ـ وآخرها حركة "حماس" ـ معارك انتخابية تحت شعار "الإسلام هو الحل".
الوطن العربي، على وجه الخصوص، والعالم الإسلامي، على وجه العموم، يعانيان من خيبات عديدة؛ خيبات وطنية، مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ربما أبرزها، خيبات اقتصادية، خيبات اجتماعية، فكرية، ثقافية وعلمية.. إلخ.
الأنظمة الوطنية التي صعدت إلى سدّة الحكم، بعد زوال الاستعمار، في أكثرية هذه البلدان، رفعت شعارات حل المشكلات المتراكمة، والخروج من الخيبات المزمنة، خصوصاً الخيبات الوطنية. وما عرف باسم "أنظمة الطوق"، و"أنظمة المواجهة مع إسرائيل"، خاضت عدة مواجهات عسكرية، انتهت بخيبات جديدة، وبتعميق الجراح الوطنية. أكثرية هذه الأنظمة فشلت في حل المشاكل الداخلية على تنوّعها. ويمكن القول: إن هذه المشاكل تعمّقت بالقياس إلى سرعة التطور التي تجري في بلدان العالم الأخرى. الأحزاب والحركات الإسلامية، واستناداً إلى فشل الأنظمة وتعمّق الخيبات، طرحت شعار "الإسلام هو الحل". ولخّصوا هذا الشعار بالقول: لا يصلح الخلف إلاّ بما صلح به السلف. وتفسير هذا الشعار يعني العودة لإقامة النظام الإسلامي.
كما هو معروف تاريخياً، أقام السلف العديد من النظم تحت يافطة الإسلام. وكان هناك العديد من النظم التي سمّت نفسها باسم "الخلافة الإسلامية". كانت الخلافة الراشدية، الخلافة الأموية، الخلافة الزبيرية ـ خلافة عبد الله بن الزبير ـ وخلافة للخوارج ـ خلافة قطري بن الفجاءة الخارجي ـ الخلافة العباسية، الخلافة الأموية في الأندلس، الخلافة الفاطمية، وأخيراً الخلافة العثمانية. ثم كان هناك ممالك، إمارات، وسلطنات عديدة، مثل ممالك وسلطنات بني بويه، السلاجقة، الأيوبيّين، الحمدانيّين، المماليك، المُرابطين، المُوحِّدين، الطولونيّين، الإخشيديّين.. وغيرهم كثير.. كما كانت هناك "أنظمة ثوريّة" كالقرامطة.. وكل هؤلاء قالوا إنهم يطبقون النظام الإسلامي.
منتسبو الأحزاب الإسلامية، وإن كانوا يُدافعون عن هؤلاء جميعاً، إلاّ أنهم يشيرون إلى أنه ما عدا الخلفاء الراشدين، كان الخلفاء الآخرون سلاطين أو ملوكاً أو قياصرة في لباس خلفاء، وأنهم حادوا عن تطبيق الإسلام، ولذلك وقعت لهم خيبات كثيرة، ربما أحياناً كانت أعمق من الخيبات التي نعانيها اليوم.. وإن قلتَ: ولكن كان لهؤلاء، أو لبعضهم على الأقل، فضل توسيع رقعة الإسلام، بالفتوحات والتجارة ونشر الدعاة، جاءك الجواب بأن ذلك صحيح، رغم انحراف هؤلاء السلاطين عن التطبيق السليم للإسلام.
وإذاً من هو السلف الذي تدعونا هذه الأحزاب للعودة إليه؟
الجواب بسيط وواضح: الخلافة الراشديّة التي تشمل، أيضاً، الخليفة عمر بن عبد العزيز. وتسأل: لماذا عمر بن عبد العزيز، الذي حكم سنتين وبضعة شهور، وليس عبد الله بن الزبير، الذي حكم لاثني عشر عاماً، وسار على خطى عمر بن الخطاب، وجاءته الخلافة بطريقة أكثر شرعية بما لا يقاس من الطريقة التي وصل بها عمر بن عبد العزيز؟
لماذا ليس عبد الله بن الزبير وهو الذي كان مَضْرَبُ المثل في ورعه، وفي عدله، أيضاً، وفي حفاظه على المال العام؟ ولا جواب لهذا السؤال.
وإذا سألت: لماذا ليس قطري بن الفجاءة، الخليفة الخوارجي والذي كانت سعة خلافته كبيرة، وحكم لمدة ست سنوات، وهو مثل ابن الزبير اشتهر بورعه، وبتعمّقه في الدين، وبعدله في رعيّته، أيضاً؟
ومرة أخرى لا جواب وإن كان الجواب معروفاً: لأنه خوارجي..
أي أن الحكم بالتصنيف يأتي من منطلق سياسي.
إذاً السلف هم الخلفاء الراشدون بالإضافة لعمر بن عبد العزيز. المعضلة هنا أن هؤلاء الخلفاء حكموا قبل أربعة عشر قرناً بالتمام والكمال. وأن نظامهم ـ من حيث الشكل على الأقل ـ مغاير تماماً لأنظمة الحكم اليوم. وأن الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية والإنسانية مغايرة هي، أيضاً، وتماماً لظروف عالم اليوم. وأن التحديات التي واجهوها هي غيرها تماماً للتحديات الراهنة. فكيف يمكن إعادة تطبيق ذات النموذج، بذات الحذافير، كما يقول دعاة الحركة الإسلامية؟
والأهمّ هل بالفعل ذلك النموذج يقدم حلولاً ويخرجنا من سائر الخيبات التي نعيشها، وفي مقدمتها خيبتنا الوطنية الكبرى المتمثلة في فشل المواجهة مع إسرائيل؟!
لا أريد الخوض فيما يقوله منظّرو الحركات الإسلامية رداً على هذه التساؤلات. لكن ما أودّ قوله: إن الأمر يستدعي إعادة قراءة سياسية للعهد الراشدي. لكن اقتصار القراءة على هذا العهد، ليس فقط لا يفي بالغرض، وإنما يعطينا أجوبة ناقصة. وإذاً لا بدّ من قراءة سياسية متأنّية لما سبق "العهد الراشدي"، أي لما يعرف تاريخياً بـ"العهد المُحمّدي"، وهو الفترة التي حكم فيها النبي محمّد (ص).
هنا لا بدّ من الإشارة، وإن كانت تبدو متسرّعة، إلى مفارقة لا بدّ أن تكون لفتت انتباه الجميع. مفارقة بين التنظير والممارسة، بين القول والفعل. مفارقة بين الهجوم على غير المسلمين قولاً، الغرب بصفة خاصة، الاقتداء به في الممارسة فعلاً. بين نقده الحاد والشرس تنظيراً والالتزام بتطبيق مناهجه ممارسة.
صعدت أحزاب إسلامية إلى سدّة الحكم في العقدين الماضيين في أكثر من بلد. في إيران، أفغانستان، السودان.. وفي فلسطين مؤخراً. ورغم برامجها عن تطبيق النظام الإسلامي، والعودة إلى السلف، طبقت النظام الغربية.
النظام الإسلامي لم يعرف نظام مجلس الوزراء. ولم يعرف نظام الإدارات لمختلف فروع الحياة الاجتماعية والاقتصادية. حتى أنه لم يعرف نظام الإدارات في التجارة التي اشتهر بها الصحابة، وأثروا منها ثراءً هائلاً. لم يعرف نظام المجالس البلدية، وحتى نظام المحاكم، وسائر فروع الحياة اليومية، والتي نراها بدهية من البدهيات. أكثر من ذلك لم يعرف نظام الجيوش وفروع الأمن كما هي الآن. وقبل هذا وذاك لم يعرف شيئاً اسمه فصل السلطات أو حتى لم يعرف شيئاً اسمه سلطة تنفيذية، وأخرى تشريعية وثالثة قضائية.. وطبعاً لم تكن له أدنى معرفة بنظم الإعلام والدعاية.. وتوابعها.. وباختصار فإن نظم وإدارة مختلف تفصيلات الحياة في البلدان التي صعدت فيها أحزاب وحركات إسلامية إلى سدّة الحكم هي غربية المنشأ، استلموها وساروا عليها وطبّقوها دون اعتراض.
الأحزاب الإسلامية التي صعدت للحكم أخذت كل ذلك وسارت عليه، ولم ترَ أنه يتعارض مع نظم السلف التي تدعونا للعودة إليها.. ترى هل تقرّ بأنها استلمت هذه النظم من الغرب وسارت عليها؟ وليست النظام الغربية السياسية وحدها هي التي قبلوها. إن نظم الحياة في أدق تفاصيلها، في تلك البلدان، هي عربية المنشأ وغربية الطراز، قبلوها وطبّقوها، سكتوا، لم يعترضوا.
وإذاً، ما هو الذي صلح به السلف ويسعون إلى تطبيقه كي يصلح به الخلف؟ هل هو المرأة وحجابها؟ هل هو نظام التعليم الذي هو غربي بأدقّ تفاصيله؟ هل هو نظام الصحة الذي هو، أيضاً، غربي في أصغر تفاصيلها؟ هل هو النظام الاقتصادي الذي يستوجب وقفة مطوّلة؟ هل هو منظومة الأخلاق والسلوك والقيم والمُثُل؟ هل هو الطقوس والشعائر الدينية؟ ما هو بالفعل ما يدعون إليه..؟
هدف هذا البحث إذاً هو محاولة الإجابة على كل ذلك.
الباحث هنا، ومنذ بداية البداية، تواجهه معضلة معقّدة صعبة الحل، إما أن تثنيه عن الهدف وتقعده، وإما أن تدفعه للدخول في مغامرة غير معروفة العواقب.
المعضلة تتمثل في إضفاء طابع القدسية، ليس فقط على أصحاب الفعل في هذه التجربة، بل وعلى العهدين بكاملهما، على أقوال المسؤولين وأفعالهم. على أنماط الكسب والعيش. على أنماط العلاقات والتفاعلات، وحتى على الصحابة أجمعين. قدسية تتجاوز الأشخاص إلى أفعالهم. وقراءة سياسية للفعل السياسي تعني الدخول في المحظور، أي ما يمكن وصفه بمحاولة المسّ بالمقدّس. ومعروف أن المسّ بالمقدّس يعني الوصم بالهرطقة والتكفير.. وقد يصل إلى إباحة القتل.. وغير ذلك.
إن قراءة سياسية للعهدين "المُحمّدي" و"الراشدي" توضح غنى هذين العهدين بالفعل السياسي.. والفعل السياسي كان آنذاك، كما هو اليوم فعلاً اجتهادياً، ولأنه كذلك فهو فعل غير مقدّس، ولكن، ومن الجانب الآخر يمكن وصفه بالإيجاب، ويمكن نقده بالسلب، دون مساسٍ بالجانب المقدّس للشخص أو للمجموع أو للفترة كلها. لكن "التابوهات" التي تضعها الأحزاب الإسلامية، ومن يصفون أنفسهم بحُماة الدين والحرص عليه، تجعل القراءة هنا كالسير في حقل ألغام.. لكن الحياة علّمتنا أن السير في حقل الألغام ممكن، إذا تزوّد السائر باليقظة وبالحسّ العالي وبالمعرفة، أيضاً، ودون أن ينفجر أي لغم من هذه الألغام تحت القدمين، وهو ما أنوي فعله.
واتقاءً لانفجار الألغام يبرز سؤال: على أي مصادر يمكن أن يعتمد الباحث؟
وكما نعرف لدى دعاة الأحزاب المذكورة حساسية مفرطة تجاه دراسات المستشرقين، رغم أن هؤلاء ينقسمون بين موضوعيين، وبين متعصّبين باحثين عن عثرات وهفوات لا غير. كل المستشرقين، من وجهة نظر هؤلاء المنظّرين، معادين للإسلام، وأعمالهم استهدفت المسّ بالإسلام، وبالتالي هدم المجتمعات الإسلامية.. إلخ. وإذا قلت: ولكن المستشرقين عملوا أبحاثهم للغرب، وهناك نشرت وانتشرت، والنسخ القليلة المتوفرة في مكتباتنا ليست في متناول الجميع، وبالتالي فإن هدف المسّ المحكي عنه، غير واقعي، انصبّ على القائل سيل من الاتهامات لدفاعه عن أعداء الإسلام.
وإذا قيل: ولكن الغرب الملعون حكم جميع البلدان الإسلامية، عدا جزءاً من السعودية وجزءاً من اليمن، وكان بإمكان المستعمرين المسّ بالعقيدة، وبالتاريخ.. إلخ، وأن الكتب الإسلامية المعتمدة، بما فيها القرآن، طبعت أوّل ما طبعت، في مطابع أوروبية، ولو أرادوا المسّ والتحريض لفعلوا، عُدّ مثل هذا القول دفاعاً عن الغرب، ودفاعاً عن أعداء الإسلام، وهجوماً على الإسلام، ومحاولة للمسّ به.
إذاً استبعدت في بحثي أي مرجع استشراقي. اعتمدت فقط كتب التراث وما أكثرها. تعجّ بها مكتباتنا وبأسعار رخيصة. وأعتقد أن الأسعار لا تغطي كلفة التجليد. المهمّ أن كتب التراث هذه غير مشكّك فيها. كلها صادرة تحت إشراف هيئات إسلامية بدءاً من الأزهر الشريف.. وانتهاءً بهيئات مثيله في بلدان عربية أو إسلامية مختلفة، يعني أن قابلية الطعن في هكذا مصادر غير واردة.
بالطبع يحتل القرآن الكريم مقدمة هذه المصادر، تليه صحاح الحديث، وكتب السير فالمراجع التاريخية.. وغيرها وغيرها.
وبعد قرابة أربع سنوات من البحث، وبعد تدوين مئات الاقتباسات من المراجع، والقليل منها حديث، أبدأ مشوار تدوين هذا الكتاب.
وأعاود التذكير بهدف الكتاب قائلاً: إنه لإلقاء الضوء على الجوانب المختلفة للحياة في تلك الفترة. ولأدع القارئ أن يقف بنفسه على صحة أو عدم صحة القول بصلاحية أنماط الحياة في ذلك الزمان، لكل زمان ومكان. ولأترك له الإجابة حول إمكانية أو عدم إمكانية العودة الفعلية إلى اجترار عيش السلف، حتى استعادة منظوماتهم السلوكية والأخلاقية، القيمية، الاجتماعية.. إلخ. أم أن القول بذلك هو تفتيش فعلي عن الطريق القومي أم مجرد لغو لا أكثر.. ولعلّ التوفيق يُحالفني في بلوغ هذا الهدف.
خلاصة
أغلب الظنّ أن مردّدي مقولة "لا يُصلح الخلف إلاّ بما صلح به السلف"، لا يقصدون، وربما لا ينوون، إعادة تطبيق نظام "العهد المُحمّدي" بحذافيره. هذا العهد امتاز بخصوصيات لن تتأتّى لغير النبي. حتى الراشدين، حينما حاولوا السير على خطاه، اضطروا إلى الاجتهاد. وكان عهدهم، واجتهاداتهم، أكثر عهود الإسلام مثاراً للجدل والاعتراض، فيما سنبيّنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
أوّل خصوصيّات "العهد المُحمّدي"، كما سبق ورأينا، أنه كان عهد تأسيس لدولة كبرى، عَبر تجميع قبائل لم تعرف الانضواء تحت لواء دولة مركزية طوال تاريخها. عهد التأسيس هذا احتاج، واقتضى سنّ تشريعات، وتنفيذ إجراءات، ما عادت ممكنة ولا نقول صالحة لعهدنا.
أقام النبي نظاماً يعتمد صلاحيات ومسؤوليات فرد.
فرد حاكم مطلق فرض الطاعة التامة، والثقة المطلقة في كل ما يقول ويفعل.
نظام لم يعرف، بتاتاً، شكل الحكم الجماعي، ولم يعرف نظام الوزارات، وتوزيع المسؤوليات على الوزراء، ولم يعرف فصل السلطات، بل عرف تجميعها في يد واحدة.
صحيح أن النبي كان يستشير أصحابه. وكان يُكثر من هذه الاستشارة. ولكنه هدم نظاماً مثّل جنين مؤسسة، وأحل مكانه نظام اللامؤسسة. وصحيح أن النبي كان ينزل على رأي بعض صحابته أحياناً، ولكنهم لم يُشكّلوا له، لا هم ولا كل الناس، مرجعية ما.
النبي كحاكم انفرد بخاصية أن مرجعيته السماء لا الناس. وهذه المرجعية كانت دائمة لنجدته منها كثيرة. منها ما حدث مع صحابته في "أُحُد"، في "الخندق"، وفي قصة "الإفك"، و"صلح الحديبية"، وقصة "الغرانيق" وغيرها كثير مما سبق وأوضحنا.
النظام السياسي الذي أقامه النبي، كما قلنا، اقتضى تشريعات وإجراءات، احتاجها تحقيق الهدف الاستراتيجي. ابتداعه للاغتيال السياسي لأعدائه، وإشرافه على التخطيط والتنفيذ، وإن كان مبرّراً آنذاك، إلاّ أنه غير قابل للإعادة في أيامنا. التطهير العرقي، في عمليات إزاحة اليهود، ثم إبادتهم في المدينة، وإبعادهم من خيبر ووادي القرى، وفدك، وغيرها، أصبح الآن جريمة سياسية يُعاقب عليها القانون الدولي.
حظر حرية التعبير، وتجريم المعارضة السياسية، وحظر حزب المنافقين غدت خارج إطار العصر، ومن غير الممكن إعادتها الآن. وكذلك التأليف السياسي عَبر استخدام المال العام لصالح طاعة الحاكم، غدت جريمة سياسية يُعاقب عليها القانون.
أما النظام الاجتماعي الذي بناه النبي، فقد انهار أساسه منذ زمن. الأساس هذا، كما سبق وبيّنا، فرز الناس إلى طبقتي: الأحرار والعبيد، فيما عرف بنظام الرق في الإسلام. هذا النظام بنيت عليه سائر التشريعات الاجتماعية، بدءاً بقانون الأحوال الشخصية، ومروراً بحدود العقوبات، ووصولاً إلى بعض العبادات، كالحج مثلاً. نظام الرق هذا مضى إلى غير رجعة، وبتضحيات وبطولات الغرب الذي دأبنا على كيل الشتائم له، صبحاً ومساءً، لا بيد الإسلام والمسلمين، مع بالغ أسفنا وحزننا.
والنظام الاقتصادي انهارت، ومضت إلى غير رجعة، أجزاء مهمة منه، تمثل مكوناته الأساسية. انتهى نظام الغنائم والفيء. ولعلّنا نحن الفلسطينيين نتصوّر ما الذي كان يمكن أن يحل بنا لو استعارت إسرائيل هذا التشريع الإسلامي وطبّقته علينا. المسألة لا تحتاج إلى سعة خيال. لكانت نساؤنا وأولادنا وأملاكنا غنيمة للعدو منذ زمن. ولَكُنّا عبيداً عندهم، نرضى بما قسمه الله لنا، وبما فرضه الشرع علينا.
والجزية والخراج ما عاد من الممكن إحياء تطبيقهما. هذه قوانين ذات طبيعة عنصرية ألغاها التطور البشري، وما عاد من الممكن إحياؤها.
وإذا ما وقفنا عند التربية والثقافة والتعليم، ما عاد من الممكن، بل هو عين المستحيل، إعادة إغلاق أبواب الانفتاح على الثقافة العالمية. وما عاد ممكناً منع تطوير فن التصوير أو السينما أو الرسم أو النحت، أو الموسيقى والغناء.. وغيرها وغيرها.
حرية التعبير وحرية الانفتاح على الثقافات لم تخترعها منظمات حقوق الإنسان، التي تتعرض لهجمات شرسة متلاحقة من الدعاة والوعّاظ. هذه أمور دشّنتها، وأقامتها ورسّختها البشرية عَبر مسيرتها العظيمة، خلال قرون وقرون.
وإذا ما أصرّ الوعّاظ، وهم في الحقيقة يفعلون، على أن النظام الإسلامي الاجتماعي، الاقتصادي، التربوي، الثقافي، المعرفي، السياسي.. إلخ، هو نظام صالح لكلّ زمان ومكان، لأن السماء مصدره، نقول: إذا ما أصرّوا على ذلك، فهم مطالبون بإعادة النظر تجاه من يصفونهم بالمشركين وبالجاهلية.
إذا كان النظام الحقوقي مثلاً صالحاً لكلّ زمان ومكان، مع أنه الابن الشرعي لتلك البيئة وذلك الزمن، فإنّ القائلين بهذا مطالبون بإعادة الاعتبار لبعض واضعي شرائع ذلك النظام الحقوقي. مثلاً إذا كانت البشرية تفخر بحمورابي وقانونه للعقوبات، فعلينا أن نفخر بعبد المطلب، وقانونه للديّات. وأن نفخر بالوليد بن المغير، وقانونه بقطع يد السّارق.
وإذا كانت بريطانيا ما زالت تفخر بآدم سميث وفتوحاته في الاقتصاد، فإن علينا أن نعيد الاعتبار لقصي بن كلاب، وأن نفاخر به بريطانيا، لسبقه في وضع قانون العشور مثلاً. ولعلّنا نسأل السادة الوعّاظ: إذا كانت التشريعات التي صدرت في العهد النبوي صالحة لكلّ زمان ومكان، فكيف يفسّرون نسخ الزمن لها واحداً بعد الآخر؟! وكيف يفسّرون أن الصحابة، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون، فرضت عليهم الحاجة، والتطور، اقتراض تشريعات من الأمم المفتوحة، والعمل بها؟ الدواوين كمثال، وهي تشريعات إدارية. نظام العطاءات، أو توزيع الفيء على المسلمين، وهو نظام اقترضه عمر بن الخطاب من الفُرس.
ولعلّنا، أيضاً، نذكر أنه ما من شيء واحد في حياتنا اليوم، نظام بيوتنا، خدماتها، تفاصيل معيشتنا، مأكلنا ومشربنا وملبسنا، حركتنا، سيرنا، نومنا واستيقاظنا، نظامنا السياسي، نظامنا التشريعي، وغيره وغيره.. مما لا يتّسع المجال لتعداده، إلاّ وهو مأخوذ من تطورات سير حياة البشرية، وليس من النظام الإسلامي.
وعلى أيّة حال، وكما قُلنا: النبي كان مُؤيَّداً من السماء، وهذا ما لن يتأتّى لشخص بعده. والعودة لما صلح به السلف تعني إعادة قراءة تلك الفترة، والاجتهاد في جديد الحياة قياساً على تلك الفترة.
هذا ما فعله الراشدون.
وهذا ما أثار الاختلاف ثم الفتن بين الصحابة، و"قبل أن يبْلَ نعلُ محمّد"، كما قالت عائشة. فهل يُريد القائلون بمقولة صلاح الخلف بما صلح به السلف، السير على طريق "العهد الراشدي"؟!
هذا ما يحاول الإجابة عنه الجزء الثاني من هذا الكتاب.
--- --- ---
(*) عبد المجيد حمدان
فلسطيني من قرية عارورة في قضاء رام الله
درس في المدرسة الهاشمية في البيرة، وانتسب إلى الحزب الشيوعي
حصل على بكالوريوس علوم من جامعة الاسكندرية في 1962، وعمل في التدريس وساهم في تشكيل أول تنظيم مدني لمقاومة الاحتلال وهو إتحاد المعلمين، وشارك في إنشاء وتحرير مجلة الاتحاد "كفاح المعلّم"، وأشرف على "كفاح الطلبة"وهي مجلة لمنظمة الطلبة الثانويين، إحدى منظمات الحزب آنذاك.
سُجن عدّة مرّات من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي ومُنع من التعليم والسفر وقُيّدت حركته
ساهم في مجلة "الطليعة" الأسبوعية وكتب فيها عمود "على الطريق"ً الذي عالج قضايا الناس، وكذلك في مجلة الحزب السرية "الوطن"
وللرد على ادعاءات الصهيونية الدينية في فلسطين قرأ التوراة ثلاث مرّات ونشر أول كتبه "الوعد في التوراة"، القدس، 1993
ومن كتبه الأخرى:
"الديمقراطية الفلسطينية في الممارسة"، 1995
"عن الديمقراطية 100 سؤال (1)"، 1995
"الانتفاضة محاولة تقييم"، 2002
"حقوق المرأة بين شريعة الغاب ورداء الشريعة"، 2005
"شهادات"، 2006
"عن الديمقراطية 100 سؤال (2)"، 2008
"إطلالة على القضية الفلسطينية" في جزئين، 2007-2009
"دخول إلى حقل المحرمات"، عام 2010
"المسلمة الحرّة"، 2010
وهو يكتب في موقع "الحوار المتمدن"