العلوم التي يتعلمها الطلاب في المدارس الثانوية غير مفيدة لهم في الجامعات والحياة العلمية.
علينا أن نقرر ما نريد لخرّيج الثانوية أن يعرف عن العلوم وعن المفاهيم والمعلومات العلمية ثم نصمّم برامج التدريس الملائمة
جامعة الخليج العربي ـ البحرين
يقضي الطالب في المعدل حوالي 8 ساعات أسبوعياً في دروس العلوم، أي أنه ـ إلى أن ينهي دراسته الثانوية ـ يكون قد أمضى ما يزيد على 2500 ساعة في صفوف علوم، وإذا اعتبرنا أن الطالب يقضي ساعة في التحضير مقابل كل ساعة صف (حصة) لاتضح أنه قد بذل من وقته وجهده 5000 ساعة على الأقل في تعلُّم العلوم. ولكن ماذا يتعلّم من هذه الجهود؟
* هل هو قادر على تصميم اختبار بسيط كقياس الحرارة الناتجة عن احتراق ورقة، أو سرعة نمو نبتة، أو كمية الملح في عيّنة من التراب، أو كمية الماء المتدفق من أنبوب، إلخ؟
وإن لم يكن الطالب قد قام باختبار محدد أو باختبار مماثل، فهو، في 99% من الحالات، لن يتمكن من تصميم ذلك الاختبار.
* هل وإذا تمكن من القيام بأي من هذه القياسات المذكورة، فهل يعرف مَواطن القوة والضعف في الخطوات المختلفة التي قام بها؟ هل هو قادر على إعادة القياس لتحسين دقته؟
* هل يفهم النهج العلمي؟ هل يعرف أنه لا توجد حقائق علمية ثابتة؟
لا شك أنه يحفظ معلومات علمية متفرقة، وكذلك بعض القوانين الطبيعية. ولا شك أنه قادر أن يعيدها في امتحان. ولكن:
* هل هو قادر على تطبيق أي منها في حياته المستقبلية بطريقة مفيدة؟
حتى ولو كان هذا الطالب سيدرس الطب أو الهندسة، فهل سيستعمل هذه الحقائق والقوانين التي حفظها؟
* إلى أي درجة يفهم القوانين التي درسها؟ مثلاً: لا شك انه سمع بالقانون اللينامي الحراري الثاني:
ـ هل يعرف علاقته بالقانون الأول والثالث؟
ـ هل يفهم منه لماذا لا يمكن اختراع آلة حركة دائمة؟
ـ هل يقدر أن يستنبط منه لماذا تزداد كفاءة الآلة البخارية كلما ارتفعت حرارة البخار؟
ـ هل يستطيع أن يحسب كفاءة مكيف الهواء المثلى؟
ـ هل يقدّر معنى الطاقة اللامتاحة (الانتروبيا)؟
ـ هل يستطيع أن يستعمله ليفسر لماذا لام يمكن إعادة إسالة البيضة بعد سلقها؟
ـ هل يدرك علاقته بالاتجاه الوحيد للوقت (سهم الوقت)؟
ـ هل يستوعب أن الكائنات الحية لا تتبع هذا القانون ظاهرياً ولكنها في الحقيقة تتبعه عند إدخال البيئة في الحساب؟
ـ حتى ولو فهم كل ذلك، هل هو قادر على استخدام أي من هذه المفاهيم في حياته اليومية أو في تطوير تفكير بل وهل يجد أي لذة في فهمه لقوانين الطبيعية؟
ـ هل هو قادر على قراءة مقالة في مجلة علمية عامة أو، خبراً علمياً في جريدة بطريقة تقويمية بحيث يصدق أو يكذب الخبر، أو على الأقل، أن يربط ما تعلمه من هذا الخبر ببنك المعلومات العلمية المتوافر في دماغه؟
إذا كان الجواب على أكثرية هذه التساؤلات هو النفي فلماذا نعلم العلوم في المدارس؟ لماذا نضيع وقت الطالب في أ/ور غير مفيدة في حياته اليومية ولا تساهم فيتطوير تفكيره ولا يجد لذة عقلية فيها؟ لماذا لا نعيد النظر جذرياً في تعلم العلوم بدلاً من أن نحاول "تحسين" هذا التعليم بتغيير الكتب إلى كتب تحتوي "حقائق" علمية حديثة هي كسابقتها غير ذات فائدة ولا أهمية.
لماذا نضيع وقت الطالب؟
يلاحظ العديد من المربّين في الغرب أن اهتمام الطلاب بالعلوم ينقص كلما ارتفعوا في الصفوف. فطلاب المدارس الابتدائية يتحمّسون جداً لدروس العلوم وكلما ارتفع المستوى وتحولت الدراسة من دراسة عمية (كمراقبة أرنب أو النظر داخل آلة أو قياس مدّة تحرك رقّاص ساعة) إلى دراسة نظرية كلما قل الأساس محاول لتغذية شهية الإنسان الغريزية للاستطلاع. وتعليم العلوم، حتى في أفضل المدارس الغربية، هو في أكثره تحفيظ معلومات ليس لدى الطالب أي رغبة في استطلاعها، فما بالاك بالحالة عندنا.
وكذلك فإن أكثرية الطلابية لا تكون لديها ميول علمية وهم لن يدرسوا العلوم في الجامعة ولن يستعملوا المعلومات العلمية في حياتهم اليومية فلماذا نضيع وقتهم في حفظ معادلات تفاعل برمنغنات البوتاس مع الأحماض الأمينية؟
حتى الطلاب الذين سوف يتوجهون إلى دراسة الطب أو الهندسة (أو ممارسة البحث العلمي) سوف يحتاجون إلى نسبة قليلة جداً من العلوم التي درسوها في مدارسهم في عملهم المستقبلي. فلماذا نعلمهم كل تلك المعلومات؟ فلماذا يحتاج الطبيب الناجح إلى معرفة طبقات الأرض أو أسماء النجوم، ولماذا يحتاج المهنسد العبقري إلى معرفة تفاعلات الزرنيخ أو تركيب الأحماض النووية على مستوى بدائي؟
أي علوم، أي مفاهيم؟
أنني أعتقد، كما يعتقد العديد من زملائي الذين درّسوا المواد العلمية في الجامعات، أن العلوم التي يتعلمها الطلاب في المدارس الثانوية غير مفيدة في فهمهم لما ندرسه لهم. بل وقد تكون ضارة لأنها تكبت تفكيرهم العلمي.
خلاصة الأمر أننا نحتاج قبل كل شيء إلى أن نقرر: "ماذا نريد خريج المدرسة أن يعرف عن العلوم". علينا أن نحضر لائحة بالمفاهيم العلمية التي نريده أن يعرفها والمعلومات التي يحتاجها لكي يفهم هذه المفاهيم والمستوى الذي نريده أن يفهمها عليه.
أن هذا العمل أضخم من أن تتولاّه كل دولة عربية على حدة، ولا يجوز أن يناط أمره بخبراء تعليم العلوم في وزارات التربية وحدهم. بل يجب أن تتولاّه لجان فيها محامون ومدراء بنوك وتجار لامعون كما فيها مهندسون وأطباء وعلماء وأساتذة جامعات. وعلى هذه اللجان أن تقرر ما هي المفاهيم التي يحتاجها من يدرس العلوم على المستوى المدرسي.
وبعد ذلك يترك لخبراء تعليم العلوم تصميم البرامج الكفيلة بتطبيق تعليم هذه المفاهيم وبأفضل طريقة.
أعتقد أننا لو قمنا بذلك لتمكنا من الاستغناء عن أكثرية ساعات تعليم العلوم وأن نستبدل الباقي بمواد علمية مفيدة وملذّة، وبتعليم النهج العلمي الذي يمكن تطبيقه في الحياة اليومية العملية، وحتى العلمية. ويبقى بعد ذلك وفر من الساعات يمكن استخدامه لتعليم أشياء أخرى قد تكون أكثر إفادة للتطوير العقلي، كلعبة الشطرنج مثلاً.
مُؤشِّرات من الغرب
يشكو بعض البلدان المتقدمة من تدهور مستوى تعليم العلوم وقلة الإقبال عليها وضعف اهتمام الكبار وجهلهم بالمبادء العلمية الأساسية. وتتنوّع الاجتهادات في تحديد الأسباب والحلول.
وفي إطار الدعوة المفتوحة إلى مناقشة الأزمة لما تعبر عن نفسها في وطننا العربي ننشر فيما يلي وجهات نظر ومعلومات عن الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا للمساعدة على رسم خلفية للموضوع، وللمقارنة المشروطة بعدم الخلط بين طبيعة الأزمة وتبعاتها في الغرب وبين جذورها وحلولها عندنا.
تدريس العلوم في الولايات المتحدة (اليوم) في حالة يرثى لها. ففي اختبار شمل 5 بلدان و4 مقاطعات كندية حل التلامذة الأميركيون (13 عاماً) ي المرتبة الأخيرة، في العلوم والرياضيات.
وفي مسح شمل 17 بلداً جاء التلامذة الثانويون الأميركيون في المرتبة 14، مع سنغافورة وتايلندة.
وفي 1988 قال أقل من 1% من طلاب السنة الجامعية الأولى أنهم ينوون دراسة الرياضيات مقابل 4% قبل عقدين، وهبطت نسبة خريجي الفيزياء والكيمياء من 3 إلى 1,5% وكان ثلث حائزي الدكتوراه في العلوم الطبيعية والهندسة من الأجانب مقارنة بربعهم قبل عقد واحد.
* في الأسباب: تقاعد العلماء الأميركيين، ونقص في عدد الطلبة، وعودة الدارسين الأجانب إلى بلادهم، وعزوف الأقليات والنساء عن الحقول العلمية. وهناك، أيضاً، النقص الدائم في الدعم المالي لتدريس العلوم وبهتان صورة العالم، مقارنة بالخمسينات والستينات.
ثم إن أدوات التعليم والاختبار في المدارس في قلب المدينة والريف باتت عتيقة بما فيها جداول العناصر الكيميائية التي توقف كثيرها عند 103 عنصراً، في حين إن 6 عناصر جديدة اكتشفت منذ 1962.
وهناك ندرة معلمي العلوم الكفؤين بسبب انخفاض المعاشات مقابل معاشات العاملين في مختبرات الشركات.
* في الحلول: لقد أدرك الكثيرون من المربّين الأميركيين ورجال الأعمال أن الأزمة العلمية باتت أهم من أن تترك للمشرّعين ورجال الإدارة المحليين. ففي مشروعها الإصلاحي في العام 1985 دعت الجمعية الأميركية لتقدم العلوم إلى:
ـ على المدارس أن تشدد على المفاهيم العلمية بدلاً من تحفيظ التلاميذ بطرق تبلّد الذهن والمخيلة وتجعلهم يعزفون عن العلوم منذ نسواتهم الأولى.
ـ على الصناعات والشركات أن تسهم في رفع مستوى التعليم (بعض الشركات باتت توزع أدوات علمية بسيطة على المدارس تساعد على إثارة حب الاستطلاع، أو المحافظة عليه، وتنفيذ الاختبارات العلمية).
ـ تشجيع المرأة والأقليات على اقتحام هذه المجالات وتقديم التسهيلات التدريسية للمدارس والمراكز في مناطقهم.
ـ تأسيس معاهد خاصة للتلاميذ الموهوبين في العلوم والرياضيات.
في أيلول عام 1990، عقد الرئيس جورج بوش "قمة تربوية" هدفها فتح حوار قومي حول سبل تحسين التعليم عموماً والعلوم خصوصاً. لكن أشكال الاهتمام العالية هذه لن تجدي نفعاً من دون برامج ملموسة ودعم مالي.
(المصدر: عن "أزمة في غرفة الصف"، "التايم"، 18/9/1989 ـ بتصرف).
* ينصرف الشبان عن العلوم في هذه الأيام، في الجامعة وما بعدها. ويحتاج الطالب لدخول كلية العلوم في بعض الجامعات (استراليا) إلى معدل أقل من المعدل اللازم لكلية التربية البدنية!.
وفي الولايات المتحدة شهد العام 1988 أدنى عدد من خريجي الكيمياء منذ 10960. وتعاني بريطانيا عزوفاً نسائياً عن دراسة العلوم في الجامعات وانخفاضاً في عدد المهندسين. وفي مؤتمر الجمعية البريطانية لتقدم العلوم (أيلول 1989) جرى الجديث عن تخفيض مستوى الشروط والمعايير في المدارس الثانوية من أجل اجتذاب التلاميذ إلى العلوم.
* في الحلول: إعادة شيء من الإثارة والمغامرة إلى المهن العلمية من أجل جذب الجيل الراهن، وتغيير صورة الباحث العلمي من كونه الشخص القابع في الغرف الخلفية فيما الآخرون "يقررون مصير العالم في المقدمة".
ـ إحلال "العلمية" على الحضارة فعلاً، فتكون "الأفكار"، أيضاً، علمية لا الأدوات فحسب.
ـ توعية التلاميذ بماهية المهن العلمية وما تتضمنه.
ـ تشجيع المبدعين في حقول علمية على الإبقاء على حماستهم لها والنظر إليها كخيارات عملية مستقبلية.
ـ تحسين المكافآت المادية وبلورة التحدي الفكري أمام الأجيال التي ستواجه القرن القادم.
(المصدر: روبين وليمز، في "قهر التراجع عن العلوم"، "نيو ساينتست"، 14/10/89 ـ بتصرف).