حالة لا تنتهي من الانتظار، انتظار سياسي دائم، لحل قضية شائكة ومعقدة، وهو انتظار الانتقال الى الحل الدائم الذي يعني إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة، وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره دون وصاية. قبل الوصول الى هذا الهدف الكبير لا يهم ماذا سيكون عليه الحال في المرحلة الانتقالية الطويلة جدا. كل شيء مبرر ولا يخضع لمعايير مهنية او مؤسساتية او حتى عقلانية، التبريرات جاهزة كالقول هذا الاجراء مؤقت وذاك انتقالي ولا يهم وجود مصيبة غالبا ما تسمى ثغرة، وجمعها مصائب وثغرات هي ليست استثناء بل قاعدة واسلوب عمل وثقافة. وكلها تشكل عقبة أمام الحل الدائم، وقد تستخدم كذريعة تبرر لغطرسة القوة كبح العملية السياسية وتقويض مقومات هدفها المركزي ( الدولة) التي تشكل أداة تجسيد الكيانية الوطنية، والعنصر الأهم في إعادة توحيد مكونات الشعب الفلسطيني، وفتح الإنسداد أمام تطوره الاجتماعي الاقتصادي.
وبالفعل أُدْخِلْنا إلى شراك الذرائع، فقالوا : "الفلسطينيون غير جديرين بدولة"، وهم عاجزون عن تقرير مصيرهم بأنفسهم". لقد تم تناسي حقيقة ان تطوير العامل الذاتي والحرص على تمتعه بالمناعة الكافية، وعلى تطوير ومضاعفة طاقة المجتمع
على العمل والانتاج، هو العنصر الأهم في معركة التفاوض السياسي وفي الصراع مع الاحتلال، وفي جذب وإقناع الاصدقاء للمساعدة في إنجاح العملية السياسية وفي بناء مقومات الانفصال عن الاحتلال والتحرر.
وعلى الصعيد الداخلي تم إغفال حقيقة أن السلطة بما هي نواة للدولة تملك من الناحية النظرية والعملية القدرة على تماسك المجتمع من خلال وضع منظومة من القوانين والسهر على تطبيقها وحمايتها، والشروع في تأسيس نظام تعليمي حديث، وبناء المؤسسات الصحية والثقافية وتطوير البنية التحتية، وتقديم نموذج ديمقراطي مقنع للمواطن ويقدم الدليل الملموس على أن السلطة الوطنية هي نقيض لسلطة الاحتلال في كل شيء.
خلافا لذلك تعامل صانعوا القرار مع السلطة كنظام للسيطرة بأبعد ما يكون عن دولة او نواة دولة قابلة للتطور الذي يواكب العصر وينافس دولة الاحتلال، منطلقين من مفهوم أنه لم يحن أوان الدولة، وأن الأولوية للعملية السياسية. وكان من نتيجة
ذلك العبث والتفريط بنواة الدولة القابلة للتطور والمنافسة والجاذبة داخليا وخارجيا. وتركت العملية نهبا لأطماع المبادرين الباحثين عن مراكز وامتيازات. وافتقدت المعايير والأسس المهنية والقيمية باعتبارها عنصرا مقررا، واستعيض عنها بفوضى المعايير وأنظمة السيطرة القديمة التي عفى عنها الزمن، وتم الاكتفاء بشروطها الغابرة من نوع : الولاء والفئوية والعائلية والعشائرية والمحلية والجهوية والواسطة والمحسوبية والحزب الحاكم وتنظيمات الكوتا التاريخية. وبفعل ذلك اصبح لدينا نواة دولة مشوهة غير قابلة للتطور والإصلاح ما لم تتم جراحة بمستوى عال من الجرأة، نواة أضعفت ثقة المجتمع بالسلطة وجعلت من شعار الدولة شرا مستطيرا. وبفعل ذلك أصبحت فئات واسعة من المواطنين تعتبر الوصول الى مرحلة الدولة كارثة، وهي نتيجة لو أراد الاحتلال أن يصنعها لما استطاع. وكان للتعينات المتسرعة الأولى في مؤسسات السلطة وفي البلديات وتعينات المحافظين من العسكريين والترفيعات الدراماتيكية وسط العسكريين، تأثيرا سلبيا على انتخابات المجلس التشريعي لأنها فتحت شهية الراغبين في الصعود الى تقدم الصفوف والاستئثار بالثمار في غياب المعايير المهنية الصارمة.
وكانت النتيجة خسارة الفرصة التاريخية المتاحة لأول مرة في وضع نواة دولة ديمقراطية ونظام سياسي ديمقراطي، وخسارة التراكم المهم الذي توجته وثيقة إعلان الاستقلال التي كانت أولى ضحايا المرحلة. كان أمامنا فرصة وضع منظومة
قوانين عصرية ديمقراطية كقانون للأحوال الشخصية، وقانون للعقوبات، وقانون عمل، وقانون للاعلام، قوانين مهدت لها وثيقة إعلان الاستقلال، قوانين تقطع الطريق من أمام التحولات الرجعية الرهيبة داخل المجتمع. والأهم بناء قطاع العدالة (استقلال القضاء والمحامين) وسيادة القانون كتجسيد لفصل السلطات. للأسف تم إضاعة هذه الفرصة بالتلكؤ والخوف من القوى الرجعية حينا وبالتماهي والمنافسة معها على قيم التخلف والرجعية في نهاية المطاف، وبخاصة عندما جرى الإقرار بالقانون العشائري الذي أصبح فيما بعد له القول الفصل، بوجود مجلس تشريعي منتخب ينتمي بنسبة 99% لمنظمة التحرير.
وأضعنا فرصة استبدال المنهج التعليمي القديم المتخلف القائم على الحفظ والصم يفصل العلم عن الحياة وعن احتياجات تطور المجتمع ويدير الظهر لحاجة المجتمع الى ثقافة التفكير والتساؤل والابداع والمبادرة وتنمية القدرات. حدث ذلك عندما
أعدنا انتاج المنهج القديم مع تعديلات لها علاقة بالهوية الوطنية لكنها لا تمس المضمون. وأكبر دليل على ذلك بقاء سياسة الحفظ وانفصال العلم عن الحياة وحاجة المجتمع وضعف اللغات والرياضيات والعلوم.
سياسة إضاعة الفرص استمرت ولم يَرْقَ التقدم الذي أُحرز طوال 18 عاما الى مستوى تجاوز الاختلالات الأساسية أو إحداها. على العكس من ذلك حدث تدهور مريع في مجال الثقافة. تم التعامل مع حقيبة الثقافة كفائض عن حاجة السلطة رغم
أنها لعبت تاريخيا دور رافعة أساسية للنضال وعنوانا للهوية وللصمود. بدا إشغال هذا المنصب لملء فراغ او تكملة عدد أو مهمة ثانوية على هامش المهمات، أو كحصة تقررها رغبة طيبة خارج الزمان والمكان، ومعايير حزبية لا تمت للثقافة بصلة. فكانت الرؤية التي حددت من يشغل حقيبة الثقافة تخضع لنظام المحاصصة (الكوتا)، ولمفهوم التنظيم الذي يحصر الثقافة في حلقة ضيقة جدا (قيادة أحد التنظيمات)، ويتم تحديد الشخص المناسب داخل قيادة التنظيم وفي حدود امكاناته الحزبية الضيقة وليس في حدود صداقاته ومعارفه داخل المجتمع. وهذا يتناقض مع افتراض إختيار على قاعدة من هو الشخص المناسب للثقافة الفلسطينية بالاستناد لكفاءات الشعب الفلسطيني الثقافية. إن معايير الحكومة والمطبخ الذي تولى عملية التشكيل لم تقترب من معايير حتى الحكومات العربية على اقل تقدير التي راعت في العقود الثلاثة الاخيرة أن يتولى حقيبة الثقافة كفاءة ثقافية من داخل الوسط الثقافي بشرط الموالاة النسبية للنظام. ومن يتشكك في ذلك عليه مراجعة قائمة وزراء الثقافة العرب، فسيجد أن الوزراء من داخل الثقافة وكفاءاتها المقنعة نسبيا وفي حالات قليلة من الكفاءات الاكاديمية ومن أكاديميين.
لماذا توضع الثقافة تحت رحمة التشكيلة الوزارية الناجمة عن متغيرات سياسية او نتيجة للتوافق بين التنظيمات؟ لماذا يظل المستوى السياسي مرجعية دائمة للثقافة دون اي هامش استقلالي ودون ان يكون للثقافة مرجعيتها الثقافية المتقدمة؟ لماذا يتحول وزير الثقافة إلى مرجعية وسلطة وقرار يتحكم في كل العملية، وعندما يأتي وزير جديد يَجُبُ ما قبله.
الثقافة وكيفية التعامل معها تحدي كبير يمكن أن تقاس من خلاله جدية المستوى السياسي ومدى احترامه لتراث الثقافة الفلسطينية الذي قدم لنا درويش وإدوارد سعيد وفدوى وإميل حبيبي وغسان وناجي وغيرهم عنوانا للثقافة الفلسطينية. نحن بحاجة إلى تغيير قواعد التعامل مع حقيبة الثقافة وبخاصة في العام الذي اصبحت فيه فلسطين عضوا في منظمة اليونسكو الدولية وما تعنيه العضوية من ضرورة الارتقاء والاهتمام بالثقافة وجبهتها المشرعة ضد الاحتلال وسياساته.
والتعليم الذي يصيغ الاجيال ويحدد المستقبل و يشكل مقياسا لمناعة المجتمع ومقومات تطوره، بحاجة أيضا الى تغيير قواعد التعامل الرسمي معه. فلا يعقل ان نضع مليون وربع المليون من تلاميذ وطلبة المدارس تحت رحمة مفاهيم التعصب والتخلف المنتشرة بقوة في جهاز التعليم، والتي لبعض مروجيها اليد الطولى في نشر ثقافة تعصبية منغلقة، وفي إطفاء الرموز الوطنية كالعلم والنشيد والزي المدرسي وتراث المجتمع الوطني والثقافي. جهاز التعليم بحاجة الى عناية فائقة ولسياسات وأساليب تعليمية تنتمي للقرن ال 21، وبحاجة للانتقال من منهج يحول الطلبة إلى جهاز للحفظ والتسميع من اجل الشهادة، الى منهج يساعد على تطوير الملكات وحفز وتشجيع الابتكار والابداع وترسيخ ثقافة التعدد والتسامح والاختلاف داخل المدرسة والمجتمع. بحاجة الى مؤتمر سنوي للتعليم يقول فيه أصحاب الكفاءات المتنورة أفكارهم التطويرية. ولا شك في أن المجتمع الفلسطيني بحاجة الى تطوير التعليم سواء نجحت العملية السياسية وتحررنا من الاحتلال ام لا. بل إن استمرار الاحتلال يستدعي الاهتمام بالتعليم أكثر فأكثر. هل نحن بحاجة (لمجلس تعليم من اصحاب الاختصاص ) يقود العملية وفي هذه الحالة تصبح حقيبة التعليم في اي حكومة لها مرجعية ملزمة وسياسة محددة وجهاز تعليم منحاز لقضية التعليم العصرية.
القانون والثقافة والتعليم والاقتصاد والأمن جوهر الدولة القادمة. والدولة هي عنوان الانتقال من المجتمع القبلي الى المجتمع المدني. فهل نضع لبنات التطوير ونتابع البناء عبر محاكاة النماذج المتقدمة والناجعة، أم نقلد النظام الذي دمر كل شيء والأمثلة كثيرة جدا.