هو أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ (257/870ـ339/950). موسيقار متميز، اخترع آلة القانون ويعد أعظم من كتب في نظرية الموسيقى في العالم الإسلامي؛ وفيلسوف متميز عُدَّ المعلّم الثاني بعد أرسطو. قال ظهير الدين البيهقي في كتابه "تاريخ حكماء الإسلام": الحكماء أربعة: اثنان قبل الإسلام، هما أرسطو وأبقراط؛ واثنان في الإسلام هما أبو نصر، وأبو علي، يعني ابن سينا. وعندما ينسب أي من رجالات العصور الوسطى إلى الفلسفة، كأن يُعدّ فيلسوفاً، فذلك يعني أنه، أيضاً، عالم متضلّع بالعلوم الكونية، ومتضلع فوق ذلك بكتب أفلاطون وأرسطو وأتباعهما. لقد كانت الفلسفة يومئذ، كالرياضيات في أيامنا هذه، أم العلوم وصفوتها، منها تستمد العلوم الكونية قوتها ومنطقها، وعليها تستند.
ولد الفارابي حوالي سنة 257 هـ في وسيج، وهي بلدة من فاراب، من بلاد ما وراء النهر؛ وتوفي في دمشق في رجب سنة 339. وكانت فاراب حديثة عهد بالإسلام، فقد احتلت وأسلمت على يد السامانيين سنة 225. وكان السامانيون يدّعون أنهم من سلالة الساسانيين ملوك فارس القدماء. وكان أبو الفارابي ضابطاً في الجيش الساماني يدّعي أنه من أصل فارسي، إلاّ أن أسرته كانت تركية اللغة والزي والعادات.
بدأ الفارابي تعلّمه في نجارى، فدرس علوم الدين والموسيقى. ثم رحل إلى مرو حيث تعرّف على قِسِّ سرياني هو يوحنا ابن حيلان؛ فدرس عليه المنطق، وكان عنده تلميذاً مبرزاً. ثم ارتحلا معاً إلى بغداد، فانصرف ابن حيلان إلى واجباته الكنسية، ولازمه الفارابي فدرس عليه الفلسفة. ولم يشارك ابن حيلان في الحياة الثقافية في بغداد، وهو العالم بالمنطق والفلسفة، وبغداد عندئذ أم الدنيا وحاضرة الثقافة والحضارة والعلم. لذا يظن أنه لم يكن يتقن العربية، وأنه كان يعلّم تلميذه الفارابي باليونانية أو السريانية أو بلغة أخرى. أما الفارابي فتعلّم العربية في بغداد على ابن السراج. كان الفارابي يعلّمه المنطق والموسيقى ويتعلم عليه اللغة والأدب. ولقد أتقن العربية حتى صار أسلوبه نموذجاً يحتذى في الكتابة الفلسفية، ويوصف بالسهل الممتنع. وله نثر فني بديع، وشعر رقيق محبّب.
وفي خلافة المكتفي (289ـ295) أو خلافة المقتدر (295ـ320) زار الفارابي حران مع معلمه ابن حيلان، ثم مضى إلى القسطنطينية فقضى فيها ثماني سنوات يدرّس الفلسفة والعلوم الإغريقية في مصادرها. ثم رجع إلى بغداد فيما بين (297ـ307) فقضى فيها عشرين عاماً يكتب ويعلّم، حتى أربى ما كتبه على مئتي كتاب، بقي منها كثير، لكن ما طبع ونشر منها قليل. ومهما يكن من أمر فلقد تمتع الفارابي، في حياته وبعد مماته، بسمعة طيبة، وكان لكتبه أثر عظيم، وقد نقل بعضها إلى العبرية واللاتينية. يكفيه أن قد تتلمذ على كتبه ابن سينا وابن رشد وابن ميمون، وأخوان الصفا. لقد ظلت كتبه تدرّس طوال العصور الوسطى. أما من تتلمذوا عليه مباشرة فتعرف منهم القسّ أبا زكريا، يحيى بن عديّ المنطقي، وكان على رأس مدرسة فلسفية في بغداد، وأخاه إبراهيم بن عديّ، وقد رافق الفارابي حتى وفاته.
ورحل الفارابي عن بغداد، وهو شيخ في السبعين من عمره، لا طلباً لعلم وإنما إيثاراً للسلامة، فقد قامت في بغداد فتنة جعلت الخليفة نفسه يهرب ويحتمي في الموصل عند أمير من بني حمدان. وكان الإخشيديون يومها، وعلى رأسهم كافور، يحكمون سورية ومصر. وهم في الأصل ضباط من فرغانة، جيران لموطن الفارابي. فرأى ـ رحمه الله ـ أن يقيم في دمشق، محتمياً بظلهم. ولكن ما لبث أن استقر، حتى قام صِدام بين الإخشيديين والحمدانيين، فمضى الفارابي إلى مصر. ثم احتلّ سيف الدولة حلب ودمشق، وأخذ يحيط نفسه بالعلماء ورجال الفكر. فعاد الفارابي إلى دمشق. ولكنه ما لبث أن توفي في رجب سنة 339 فصلّى عليه سيف الدولة في رجال من حاشيته، ودفنوه في ظاهر دمشق خارج الباب الصغير.
تقول رواية لم تؤكد أن الفارابي مات مقتولاً. قتله خارج دمشق لصوص لحق بهم حرس سيف الدولة فشنقوهم فوق قبره.
كان ـ رحمه الله ـ قنوعاً، زاهداً، متديناً، لا يهمه من أمر الدنيا سوى طلب العلم والتعليم. أراد سيف الدولة أن يكرمه في شيخوخته بأن يجري عليه راتباً يكفيه السعي في سبيل العيش، فأبى أن يأخذ أكثر من أربعة دراهم في اليوم؛ قال إنها تكفيه أمر الغذاء والكساء.
من الأقوال المأثورة عنه قوله ينبغي لمن أراد الشروع في درس الفلسفة أن يكون شاباً صحيح المزاج، متأدّباً بآداب الأخيار، قد تعلّم القرآن واللغة وعلم الشرع،، عفيفاً متحرّجاً صدوقاً، معرضاً عن الفسق والفجور، والغدر والخيانة، والمكر والخديعة؛ وأن يكون خلي البال عن مصالح معاشه، مقبلاً على أداء الوظائف الشرعية، غير مخل بركن من أركان الشريعة، غير مخل بأدب من آداب السنّة، معظماً للعلم والعلماء، ليس عنده لشيء قدر إلاّ للعلم وأهله. وعليه ألاّ يتخذ علمه حرفة ومكسباً. ومن كان خلاف ذلك فهو حكيم زور، لا ينبغي أن يُعدّ في جملة الحكماء.
فلسفته
يعد الفارابي أحد أركان الفلسفة الإسلامية، ومن أعلام الفكر الإنساني ورجالات الإصلاح الاجتماعي. شرح كتب أرسطو وإقليدس وبطليموس والإسكندر الأفروديسي، وردّ على جالينوس فيما تأوّله من كلام أرسطو، وعلى الرازي في "العلم الإلهي"، وعلى ابن الراوندي في "أدب الجدل". وقد حاول أن يوفق بين رايي أرسطو وأفلاطون، وأبقراط وأفلاطون، وأرسطو وجالينوس.
وكتابه "إحصاء العلوم" أول موسوعة علمية، وكتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" من أوائل كتب الإصلاح الإداري والاجتماعي.
عمد الفارابي إلى شرح أهداف الفلسفة، وإلى الدفاع عن سلوك الفلاسفة؛ وقد تجنّب الصِدام مع الأفكار الدينية، أو لعلّه، وهو المؤمن العميق الإيمان، لم يقم في ذهنه تعارض بين الفلسفة والدين. وقد تجنّب، أيضاً، الجدل السياسي والعقائدي، وكان هذا محتدماً في عصره؛ وهو لم ينتسب إلى أي من الملل والنحل التي كثرت في أيامه، سوى الإسلام بنقائه وبساطته. وكان له معارف بين ضباط الجيش وحرس الخلافة، من بني جلدته، وعن طريقهم اتصل ببعض الكتّاب والوزراء ممن كانوا يتنافسون في تشجيع العلم والعلماء؛ فأكسبه ذلك حماية وأمناً.
ومن يعمد إلى الفلسفة بعد العصر الهليني، فلا بدّ أن يتتلمذ على كتب أفلاطون وأرسطو ومن تبعهما من فلاسفة الإغريق. وهذا ينطبق على الفارابي: فقد كان يرى أن الفلسفة، ويسميها أحياناً العلوم أي الفكر العلمي، وصلت إلى قمة بنيانها بكتابات أفلاطون وأرسطو وكل من أضاف من بعدهما جديداً إلى صرح العلوم، وبخاصة العلوم الطبيعية والرياضية.
ولكن هذا الوضع قد تغير مع الزمن، فانحدر العلم، واضطربت أهدافه، وتزعزعت روحه، إلى أن جاء الإسلام فوجد العلم في رحابه مهداً جديداً ينمو فيه ويترعرع. ولكن علماء ديار الإسلام لا مندوحة لهم عن تطعيم معارفهم بتفهم عميق لينابيع المعارف في مصادرها، يعني الفلسفة الإغريقية، وهم لا مندوحة لهم، أيضاً، عن العمل الجاد لإحلال الانسجام بين هذه الينابيع، كيما تترسخ باعتبارها الحكمة الإنسانية العليا. وهذا يقتضي الفهم العميق للمبادئ والمنطلقات الأولية لدراسة الإنسان لنفسه، وللعالم من حوله، أو بعبارة أخرى أن يقتضي معرفة المنهج العلمي الذي وضعه أرسطو، والعمل على تطويره.
والفارابي، في محاولته ترسيخ هذه المبادئ في الفكر الإسلامي، يأخذ بعين الاعتبار تلك الفجوة التي تفصل بين البيئة الثقافية الإسلامية، ونظيرتها الإغريقية، وما يتبع ذلك من اختلاف في اللغة والأحوال السياسية والعادات الفكرية والممارسات الشرعية، وبخاصة تأثير الأديان المنزّلة والوحي على التفكير العلمي والحياة السياسية. وكأنه رأى أن الاتجاه الديني والاتجاه الفلسفية ليسا إلاّ طريقين للوصول إلى هدف واحد، هو الحقيقة الأزلية: أما الاتجاه الديني، فيملي على الناس جميعاً، العالم منهم والجاهل، طريقاً مستقيماً لرضى الله، وأما الاتجاه الفلسفي فيتطلب من صاحبه أن يشق طريقه بنفسه، بفكره، بعرقه؛ وبذا تكون معرفته لخالقه أصفى وأعمق، لأنها عن فهم وجد وإدراك.
من هذا المنطلق مضى الفارابي، بثبات ويقين وحنكة، يعلم الناس زبدة ما توصل إليه وآمن به، ويدعوهم إلى توجيه الفكر إلى المفاهيم الطبيعية المحضة، بمعزل عن شتى العادات والآراء والاتجاهات.
وفي تعليمه هذا سار على منهاج معقد ذي مراحل متتالية تعتمد على فلسفة أرسطو وعلى عدد من محاورات أفلاطون، بالإضافة إلى كتب أبقراط وجالينوس في الطب، وكتب إقليدس وبطليموس في الرياضيات والفلك، ومنها كتب أفلوطين وفرفوريوس وغيرهما من رجالات مدرستي "أثينا" و"الإسكندرية"، ممن شرحوا كتب أفلاطون وأرسطو.
كان منهاجه يبدأ بتمهيد موجز لآراء هؤلاء وكتاباتهم، يليه وصف شامل للصرح العلمي الذي أقاموه، مع تلخيص لبعض كتبهم، ويلي ذلك نصوص من كتب مختارة، وشرح لغوامضها، ثم وقفة ناقدة توسع بعض المفاهيم، وينهي هذا كله بشروح مفصّلة يراجع بها الفارابي أهم كتب أرسطو بتفصيل شامل، ونظرة إلى الشروح والتعليقات والانتقادات التي كتبها السابقون على هذه الكتب.
الحرية العلمية
فإذا حكمنا بناء على القليل المنشور المحقق من رسائله الكثيرة، نجد أن هدفه هو شرح أفكار أرسطو شرحاً ضافياً وبيان الترابط بينها، ثم بيان ما بينها وبين أقوال النقّاد من اتفاق أو اختلاف، مع دراسة لهذا الاختلاف تبين ما هو منه حق وما هو عن سوء فهم.
إلاّ أن المرء يشعر أن انفتاح الفارابي في شرحه يحدّ من شعوره بأن الحرية العلمية في عصره مقيدة بقيود لا يمكن تجاهلها.
وفي السياسة يعول الفارابي على فلسفة أفلاطون، كما تبدو في الجمهورية وفي القوانين. أما في النظرية السياسية فهو، كعادته، يحاول أن يوفق بين رأيي أفلاطون وأرسطو، مع الحفاظ على الخصائص المميزة لكل منهما، وهذا يجعل قارئه يشعر أن الاختلاف بينهما هو من طبيعة العلم وينصب على أمور مستعصية فيه.
وأما في السياسة التطبيقية ففي كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" وضع الفارابي دستوراً للمدينة الفاضلة يضم مؤسسات وقواعد ومسالك تستهدف تطوير المعرفة الإنسانية، أو على الأقل إزالة العراقيل من طريقها.
الفارابي المعارض والموسيقي
وضع الفارابي عدة كتب في غير حقل الفلسفة. فقد شرح كتاب "الأصول" لإقليدس في الرياضيات، و"كتاب المجسطي" لبطليموس في الفلك. غير أن كتبه الرياضية استعراضية، تقليدية، لا تجديد فيها يذكر.
وكتب، أيضاً، في العلوم الطبيعية، وهو في هذا الميدان يقف موقف المعارض. فقد عارض تفسيرات جالينوس عن آراء أرسطو في تقسيم الحيوانات؛ وعارض آراء فيليبونس في نقده لأرسطو عن أبدية الكون وأزليته، وحركته. وعارض الرازي في آرائه عن المادة والذرّات والزمان والمكان. وعارض ابن الرواندي في عرضه للعلوم الكونية، وعارض علماء الدين في حبثهم في الذرات والفراغ... وعارض، أيضاً، ما يجري من تدجيل في الكيمياء والتنجيم. ولكن الحقل الثاني بعد الفلسفة عنده هو الموسيقى. فقد وضع فيها عدة كتب أهمها "كتاب الموسيقى الكبير"، وقد وضعه استجابة لطلب الوزير أبي جعفر الكرخي. ولعلّه أعظم كتاب عربي في موضوعه. فيه كتب عن تاريخ الموسيقى، وعن النظرية الموسيقية، وآلات الطرب. وقد نشر كتاب الموسيقى الكبير، ولكنه نادر. وبيه يتبين أن الفارابي قد ألمّ بكل ما لدى الإغريق عن نظرية الموسيقى، ويتبين، أيضاً، أنه بحق موسيقار مبدع بارع. وقد أعطى الفارابي معظم ملامح الموسيقى في عصره، ووضع مئات المصطلحات العلمية والموسيقية. وإذا كانت هذه المصطلحات قد انزوت من حياتنا الآن، فليس ذلك لأنها لم تعد ذات أهمية، ولكن لأن الموسيقى نفسها لم يعد لها قيمة تذكر في حياتنا الثقافية، بل هي في حياتنا الاجتماعية لا تعدو كونها أداة حزن أو فرح ولهو.
وفي "كتاب الموسيقى الكبير" نجد أن الفارابي، في طريقة البحث والتعريفات، يعتمد كثيراً على الإغريق، لكنه في المحتوى يتجاهل بعض ما وضعه الإغريق، ويبرز ما هو جارٍ في أيامه في العالم الإسلامي. وهو يتجاهل، أيضاً، أفكار الكندي عن الموسيقى الكونية.
وهو، على غرار أرسطو، يبدأ البحث بفيزياء الصوت، وفي ذلك يعلو كثيراً فوق ما وصل إليه أرسطو، إلاّ أنه لا يبحث في فكرة انتشار الصوت في الأبعاد الثلاثة. ولعلّ أخوان الصفا هم أول من تنبّه إلى هذه الفكرة. ويبحث الفارابي بحثاً شيّقاً في النغمة والدرجة والفترة، ويتبع ذلك بعرض مفصّل للأصوات الموسيقية والنغم. ثم ينتقل إلى الجانب العملي فيبحث في آلات الطرب، ومنها القانون، والعود والطنبور الخراساني والطنبور البغدادي.
كان الفارابي عالماً مسلماً مؤمناً، حسن إسلامه، وعمّق إيمانه، ولكنه رغم ذلك لم ينج من تكفير الفقهاء الحاقدين على الفلاسفة والعلماء، وقديماً كان المرء عدو ما يجهل.
مع ذلك حكم عليه حجّة الإسلام، الإمام الغزالي، بالكفر، في كتابيه: "تهافت الفلاسفة"، و"المنقد من الضلال".
فالفلسفة عند الغزالي كفر وبدعة وأفكار يقبلها عقله. ولا يزال، كشأنه في "تهافت الفلاسفة" يأخذ عليها اختلاف المذاهب وتضاربها. لم يدرك ـ رحمه الله ـ أن التفكير الإنساني جهد متنام متواصل يستهدف الحقيقة. هذا كخطين مستقيمين لا يلبثان أن يلتقيا وذلك كخطين متقاربين يظلان يتقاربان ولا يلتقيان إلاّ في اللانهاية ـ فماذا على ذي العقل أن يبحث عن الحقيقة بعقله! إنه يكون أكثر إيماناً بصحة ما يجده من ذلك الذي تملى عليه الحقيقة إملاء. وهل الحياة إلاّ سعي وجدّ وبناء!
د. أحمد سعيدان: عميد كلية العلوم في الجامعة الأردنية سابقاً، عضو شرف مجمع اللغة العربية الأردني
عن: مجلة آفاق علمية